التخبط في الخيارات الإستراتيجية سمة بارزة في الحركات التكفيرية
حسام مطر
ظهرت خلال الأسبوع الماضي مؤشرات متزايدة على وجود نقاش لدى قيادة "جبهة النصرة” في سوريا حول الإنفصال عن "تنظيم القاعدة” الأم. في هذا السياق، برزت كلمات "القيادي الشرعي” في "النصرة” "أبو ماريا القحطاني”، والتي توضح المنطق البراغماتي الذي تتعامل به "النصرة” وخلفياته. يذهب جملة من الباحثين الى إعتبار عامل "البراغماتية” كأحد محددات التمايز بين "داعش” و”النصرة”، وهذا يعود بشكل أساس الى التجربة الأطول لـ "القاعدة” والدروس التي إستخلصها بن لادن، فيما يذهب آخرون الى أن هذه البراغماتية هي من خصائص الأثر "الإخواني” البارز في "القاعدة”.
أسس القحطاني قاعدتين لقبول الدعم من الحكومات والدول وهما توافق المصالح وعدم وجود إملاءات. بخصوص المصلحة يحاول القحطاني تبرير فكرة الإنفصال بالقول ان "مصلحة الأمة مقدمة على مصلحة الجماعة”، أي أن الإنفصال مبرّر شرعاً إن كان فيه مصلحة "لأهل الشام” ولو على حساب مصلحة "القاعدة”. ولماذا الإنفصال يحقق مصلحة "أهل الشام”؟ لأنه قد يضمن للجماعة الدعم والتسليح وإمكانية الإندماج بإطار أوسع يجمع المسلحين في وجه خصوم موحدين. يشير القحطاني الى قبول الظواهري بهذه الفكرة ضمناً أو علناً، أي أنها ليست من باب الإنقلاب على "القاعدة” بل من باب التكيف مع الوقائع الميدانية للحرب في سوريا.
إذاً بالنسبة لـ "النصرة” الدعم مقبول من الدول والحكومات من دون إشارة لأي شروط أو مواصفات خاصة بهذه الدول والحكومات. وعليه، يمكن من هذا المنطلق "شرعنة” التعاون مع "الإسرائيلي” في الجولان من باب "توافق المصالح”. ثانياً إن كان من ضمانة أن الإنفصال "الشكلي” يضمن الدعم فانه مبرر بمصلحة "أهل الشام”، ولذا يطرح القحطاني تساؤلات بخصوص موقف الولايات المتحدة من باب الإستفسار وإستجداء الضمانات. في حال إستكملت هذه الخطوة، لا سيما في ظل إستحكام سطوة الجولاني على التنظيم بعد مقتل جملة من قادة الصف الأول في الجبهة منذ أيام، فما هي مؤشرات وتداعيات ذلك؟
أولاً، يؤشر هذا النقاش على قناعة "النصرة” وداعميها الإقليميين أن التوازن الميداني في سياقه الحالي يضمن التقدم المتواصل للدولة السورية لإستعادة نفوذها وسلطتها، ولم تعد الفصائل المسلحة قادرة على إستعادة المبادرة وهذا حال تكرس منذ معركة القصير الشهيرة.
ثانياً، ان "النصرة” بصيغتها الحالية لم تستطع تأمين حاضنة شعبية واسعة في الداخل السوري نظراً لصلتها بـ "القاعدة”، مما يشير الى المزاج السوري الغالب في رفض هذه الجماعات التكفيرية.
ثالثاً، بعد إعلان الإتفاق الأميركي مع حلفائه على تدريب ما يُعرف بـ "المعارضة المعتدلة”، يتضح أن السعودية وقطر وتركيا قد رضخوا للأولوية الأميركية في الحد من نفوذ المتطرفين التكفيريين بعد أن تجاوزوا خطوط السماح. وبناء عليه، تسعى هذه الدول لإخراج "النصرة” من ثوب "القاعدة” كي لا تتعرض لهجمات التحالف وثم الإستمرار بدعمها وتمويلها تحت مسمى جديد.
رابعاً، إنكفاء الدعم الإقليمي عن "داعش”، أقلها في العراق، وفي ظل جهود محور المقاومة في سوريا والعراق يعني أن "داعش” ستكون أمام إحتمالات محدودة، أبرزها الإنسحاب من الأماكن المفتوحة بإتجاه المدن الكبرى لكسب الوقت وإستنزاف المهاجمين، وإما البدء بالبحث عن ساحات عمل جديدة خاصة في بلاد المغرب العربي إنطلاقاً من الفوضى الليبية.
خامساً، ستتجه جهود الدول الإقليمية الحليفة لواشنطن نحو إنشاء جبهة موسعة تلعب فيها "النصرة” دور النواة، على أن تتلقى دعماً واسعاً ويلتحق بها خريجو دفعات التدريب الأميركية في محاولة - ربما أخيرة - لتحقيق توازن ميداني مع الجيش السوري وداعميه.
إلاّ أن من الأسئلة التي ستواجه الثوب الجديد لـ "النصرة” هي في غياب عامل الثقة تجاهها من الفصائل الأخرى. تدرك هذه الفصائل أن خطوة "النصرة” تكتيكية، أي أن الاخيرة في حال تحسن ظروفها مجدداً فليس من ضمانة أنها لن ترتد على حلفائها وتقوم بتصفيتهم كما فعلت مراراً، ثم هل فعلاً سيرضى الظواهري بهذه الخطوة حتى لو من باب التكتيك، إذ من شأن هذه الخطوة تصفية وجود "القاعدة” في المشرق.
يبرز التساؤل عن أثر هذا النقاش في توسعة الفارق داخل "جبهة النصرة” بين السوريين منهم وبين الإجانب وهم الأكثر تشدداً. موازين القوى داخل الجبهة ستحسم خياراً من ثلاثة، اما إستمرار الوضع الحالي، وإما القبول بالإنفصال عن "القاعدة”، وإما بتسوية تقتضي ببقاء "النصرة” قاعدية ولكن بظل إمرة إطار عمل سوري أوسع.
هذا المنهج القاعدي في التفكير يوضح مدى القدرة على توظيفهم من القوى الدولية والإقليمية خاصةً في ظل طغيان المنحى المذهبي في التنظيم بعد أن حاول بن لادن تكريس منحى العداء للأميركي كأولوية. هذا التخبط في الخيارات الإستراتيجية يبقى سمة بارزة في مجمل الحركات التكفيرية، وهو ما يفسر قصر حياتها مقارنةً بحركات المقاومة. في الحسابات الكبرى ليست "النصرة” وأخواتها إلا "أكياس رمل” لمشروع الإمبريالية الأميركية، ولا يغير من حقيقة ذلك لون الثوب أو مسماه.