عاشوراء: الحسين (ع)، والفكر العابر للأزمنة
أمين أبوراشد
قد لا نكون قرأنا وقد لا نقرأ لأحد، أعظم وأنبل من قول الإمام عليٍّ عليه السلام:
"من لم يكن أخاً لكَ في الدِّين، فهو أخٌ لكَ في الخلق".
وقد يكون "وَهَب النصراني" من أوائل من لبُّوا النداء وساروا على هذا النهج الشمولي في العلاقات الإنسانية بين البشر، وآمن مع مجموعة من المسيحيين بالثورة العادلة للحسين (ع) وكانوا من جنوده، واستشهدوا بين يديه، وضربوا أروع الأمثلة في نُصرة الحق المنتفض على باطلٍ يسكُن الأنفُس البشرية السلطوية دون تفرقةٍ في الظلم على أتباع الأديان والمذاهب.
وإذا كان الآلاف من رجال دينٍ غير مسلمين، ومن مثقَّفين علمانين قد اعتلوا المنابر العاشورائية عبر التاريخ، فقد كتَبَوا مع المستشرقين ووثَّقوا، ليس فقط ثقافة ثورة الحُسين (ع)، بل الحاجة لـ "خضرمة" وتوارث الرسالة الحسينية النبيلة ما دام هناك ظُلمٌ في هذا العالم، وما دام هناك إستقواءٌ للقادر على الضعيف، واستعلاءٌ للمتمكِّن على العاجز، واستكبارٌ للمُكابر على الصغير ونحرٌ لمظلوم على يدِ ظالم.
في كتابها "صور بغدادية"، ذكرت الكاتبة الإنكليزية "فريا ستارك" مقتطفاتٍ عن كربلاء وواقعة "الطَّفّ" وقالت: "لو زرتَ كربلاء في العشر الأوائل من محرَّم، تلمس الإيمان والوفاء والعزم بين الجموع المتدفِّقة وهي تنتحب، لكني عندما قرأت مأساة الحسين وتضحياته وفداءه وشجاعته في إثبات المظلومية والحقِّ من أجل بني قومه، لم أستطع التوقُّف عن البكاء...وعرفت من خلال قراءاتي لقصصٍ عن هذا الجندي الباسل، أن الظلم لا دوام له وأن صرحه مهما بدا راسخاً وهائلاً في الظاهر، إلّا أنه لا يعدو أمام الحقِّ والحقيقة إلّا كريشةٍ في مهبِّ الريح".
قال المناضل الكبير غاندي:"تعلَّمت من الحُسين أن أكون مظلوماً، فأنتصِر، واتَّضح لي أن الهند إذا أرادت إحراز النصر فلا بدَّ لها من اقتفاء سيرة الإمام الحسين"، وفي هذا القول لـ غاندي، فلسفةٌ في مراجعة الذات وقراءتها بكرامة، والإيمان بالحقِّ السليب وصولاً الى الشعور بالغبن والإجحاف، وبلوغ درجة الشعور بالظلم الواقع على الفرد والجماعة، وانتهاءً بامتشاق سيف الحقِّ بوجه الظالم، وهذا ما فعله الإمام الحُسين وجيَّره للأجيال اللاحقة نبراساً ونمطاً، وسلاحاً عادلاً لا يمتلكه سوى المظلوم.
لعلَّ أعظم إرثٍ خلَّفه الحسين عليه السلام، أن زرع في حناجر المظلومين على مدى التاريخ صرخة متوارثة وثورةً مُستدامة لا ترتبط بشخص القائد، فاستشهد وغدا قدوة مقدَّسة ليس على مستوى دينه وقومه فحسب، بل رمزاً للجهاد من أجل الحقّ ورَفع الغبن والأخذ بيدِ كل مظلوم، وآلاف الوثائق الغربية التي تركها المستشرقون كانت كافية لتعميم الثقافة الحُسينية عبر الأجيال نبراساً لإقامة العدل الإنساني الشامل بين البشر كائناً ما كان لونهم ودينهم، وسادت منذ ذلك التاريخ ثقافة قبول الآخر واحتضانه ومدُّ يدِ العون إليه والقتال من أجله .. وعَبَرت هذه الثقافة الأزمنة والأمكنة والمجتمعات والأديان وباتت لها رمزية الجهاد من أجل الحقّ وتحقيق المساواة.
وإذا كانت الثورة الإسلامية في إيران، النموذج المعاصر لإنتهاج فكر رفض الظلم والجهاد من أجل الحقّ، فإن "تأطير" ثقافة الحُسين ضمن دولةٍ عصرية لها دستورها وقوانينها الوضعية وأنظمتها هو الإنجاز الأعظم، ولا بدَّ لنا من اعتبار إيران النموذج الأمثل عن شعلةٍ حسينيةٍ لا تنطفىء، ليس لأن للحسين أتباع ومُريدون ومؤمنون فحسب بل لأن فكره يؤسس لمجتمعٍ عادلٍ ودولةٍ ملتزمة بشؤون الناس وشجونهم على مختلف شرائحهم وإنتماءاتهم الدينية والسياسية، والمساواة بينهم في حقوق وواجبات المواطنة.
منذ ثلاثة أيام، أطلَّ عبر قناة الميادين النائب عن الطائفة الزرادشتية في إيران "أسفينديار إختياري" والذي يرجع نسبه الى العرق الكردي فقال:
"إيران ليست كما تركيا، حيث قومية تركية وقومية كردية ضمن دولةٍ واحدة، ورغم تعدُّد الديانات في إيران ووجود أقليات دينية، إلّا أن هناك فصلاً بين الإنتماء الديني أو العرقي وبين المفهوم القومي، وليست هناك في إيران سوى القومية الإيرانية والإنتماء للأمة الإيرانية، ودستورها الذي يحفظ ويرعى حقوق الجميع ويُراعي ضمن مواده "الأحوال الشخصية" للأقليات، وحرية ممارستها لشعائرها أسوةً بباقي مكونات الشعب الإيراني دون أي فرق بين أكثرية وأقلية".
وأضاف "إختياري": "البرلمان الإيراني مؤلَّف من 290 عضواً، 285 نائباً يُنتخبون من عموم الشعب الإيراني ونواب الأقليات الزرادشتية والمسيحية الأشورية والأرمنية و"الكَلَميين" وعددهم خمسة نواب تنتخبهم أقلياتهم، لكني عند دخولي الى البرلمان الإيراني، فأنا أقوم بدوري كنائب عن كل الشعب الإيراني، وأشغل الآن منصب عضو مجلس الشورى وأرأس لجنة البحوث والدراسات التكنولوجية على امتداد الوطن الإيراني لخدمة كل الإيرانيين، ولم أشعر يوماً أني من الأقليات، الطائفة الزارادشتية البالغ عدد أفردها 25 ألف نسمة تتوزَّع ضمن ثلاث مُدن رئيسية وتتمتع بكامل الحقوق المتساوية والحرِّيات الشخصية التي يكفلها الدستور الإيراني لكافة شرائح الشعب لأن القومية الإيرانية هي التي تجمعنا بصرف النظر عن الأعراق والديانات".
استحضرنا مقتطفات بسيطة عن الثقافة الحسينية، لنقول للحسين في عاشوراء: الملايين من غير المسلمين هم "وَهَب النصراني" يا حُسين، يسيرون جنباً الى جنب خلف من يحمل الراية الحُسينية ويقبَل الآخر ويُجاهد لرفع الظلم عن المستضعفين في الأرض وما أكثرهم، ونردِّدُ قول الإمام العظيم عليٍّ بن أبي طالب صلاةً جامعة من على منبر عاشوراء: "من لم يكُن أخاً لك في الدين فهو أخٌ لك في الخلق"، ونختتم بما قاله مستشرقٌ مسيحي ونتوجَّه به الى أحفاد الحسين: "لو كان الحُسين منا لنشرنا له في كل أرضٍ راية، ولأقمنا له في كل أرضٍ منبراً، ولَدَعونا الناس الى المسيحية بإسم الحُسين ...."