kayhan.ir

رمز الخبر: 1855
تأريخ النشر : 2014June10 - 21:39

الزمن العربي الغامض

سليمان تقي الدين

موجة واسعة من الإحباط تسود الشارع العربي، لا سيما في أوساط الشباب الذي انخرط في مشروع التغيير. من السهل متابعة ذلك في كل أشكال التعبير، ولا سيما العزوف المتزايد عن المشاركة السياسية. مفكّرون عرب وكتّاب كبار ثقافة وسمعة وسلوكاً استشعروا المنزلقات الخطيرة لهجمة الإسلام السياسي لوراثة الاستبداد والإنابة عنه. بعضهم تحفظ باكراً على حركات تغيير تنطلق من مؤسسات المجتمع التقليدية التي لا تتوافر فيها روح التقدم. بعضهم الآخر تحفظ على "ثورة بلا مشروع، أو ثورة بلا ثوار”. في مثل هذه الأيام بالذات أو في الخامس من حزيران 1967 وما تلاها، كانت هناك حالة من الضبابية والضياع هائلة جداً. اختلطت المواقف والآراء وتصادمت وتغيّرت. جمهور مذهول مندهش مخيّب يدعم القيادة الخاسرة. مثقفون نقديون أعادوا النظر في أفكارهم ذات اليمين وذات اليسار.

تفككت حركات سياسية، انقسمت، تصارعت وتأسست جماعات وتيارات جديدة. بدأت مرحلة مختلفة من التفكير السياسي ومن العمل السياسي. تنازعت على نحو غير مسبوق شرعيتي "العمل القومي” و”العمل الوطني ـ القطري”، تولّد يمين سافر وشرس داخل "الحركة العربية” وكذلك "يسار متطرف”. وفي لحظة ما ظهرت الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة لتضع "حجتها” أو لتشكل "بديلاً من ضائع” تصاغ من حوله فكرة رد التحدي و”إزالة آثار العدوان”. هذا الزمن العربي ـ الفلسطيني الذي ملأ الفراغ قرابة عقدين ساهم في إطالة عمر الأزمة العربية بدلاً من أن يخلق فرصاً لحلها.

مع الثورة الفلسطينية بدأت حروب عربية عربية وعربية إقليمية بذريعة فلسطين وبالاستثمار الانتهازي للفكرة العربية الجاذبة الأكثر شرعية وعدالة. ولأنها كذلك كان الفرز حولها الأكثر خداعاً وتضليلاً. وقف الجميع مع فلسطين حتى ضاعت الجبهات والخنادق.

لا نبحث عن تشبيه ولا عن دروس وأمثلة. الأحداث التاريخية الكبرى هي بصورة أساسية فوضى تهدم القديم، تخلخل الوعي، تخض التفكير، تسقط المسلّمات أو اليقينيات، تنشر الشك وتفتح الأسئلة. من هنا يبدأ أي مشروع للتقدم التاريخي حتى لو ظهرت التوازنات السياسية وكأنها تعيد البناء على القديم وتدعيمه.

أياً كانت مسميات الأحداث العربية العاصفة وتوصيفاتها فهي انتقلت بالشعوب العربية وبالأنظمة من زمن إلى زمن آخر، ومن معطيات إلى معطيات أخرى. الشعوب قالت كلمتها في الحراك السياسي الواسع والصاخب، والأنظمة تصرفت بما لديها من إمكانات القمع والمواجهة، لكنها باتت تتحدث لغة تحمل معنى المشكلات والتحديات. ليس مهماً النيات ولا حسن النيات، المشكلات الآن في بلدان الحراك العربي أثقل وأصعب وأعقد وأعمق من قضايا ومشكلات الماضي. لا يستطيع حاكم عربي أو نظام أن يمارس الحكم بصرف النظر عن الوسيلة الذي جاء بها إلى الحكم ومن دون أن يقدّم أجوبة، إذا كان المطلوب شكلاً من أشكال الاستقرار السياسي. حتى هذه اللحظة، بتسويات أو بانتخابات أو ببطش أو بتدخلات خارجية، لا أفق للاستقرار في أي بلد عربي سياسياً وربما أمنياً أمام هول الأعباء الاقتصادية والاجتماعية التي فاقمتها الأحداث السياسية والأمنية. بل نكاد نجزم أن الأزمات بهذا المعنى تنتقل إلى دول الجوار وإلى المدى الإقليمي الأوسع وإلى الأطراف الخارجية التي شاركت في هذه الأحداث. على هذا المستوى من التفكير الذي يتجاوز اللحظة السياسية والأمنية هناك "شرق أوسط جديد” يولد قد لا تكون صورته والأرجح أنها لا تكون مشابهة لكل تصورات الفاعلين في هذا المخاض من نقطة الدائرة إلى محيطها الأوسع. المهم الآن أن تتوافر نخب سياسية واجتماعية وثقافية قادرة على طرح المشكلات بموضوعية وواقعية من علاقات أطراف النزاع إلى احتمالات وأشكال الحلول، إلى أشكال الصراع الجديدة وكيفية التعامل معها. من فلسطين ومصيرها، إلى العلاقات العربية العربية وما تولد فيها من عداوات عميقة، إلى العلاقات العربية الإيرانية والتركية، إلى العلاقات العربية الغربية وأطراف المنافسة المتجددة بين قيادة الغرب ودول كبرى صاعدة اقتصادياً ولها مطالب في النظام العالمي. ولبنان الذي تتردد فيه أصداء بل تفاعلات الكثير من القضايا الكبرى الإقليمية والعالمية، ويتلقى الآن موجات مادية من تأثيرات الجوار أكثر صعوبة وحراجة من الماضي، عليه أن يبحث عن مصيره، عن موقعه حيث أصبح ملحقاً بمنظومات أكبر منه. ومن الخطأ الارتجال بالحديث عن "هوية جديدة للبنان” أو عن "دور ثابت” أو عن "رسالة” ما دام في هذه الحال من الانقسام بل من التفكك والانهيار، ليس فقط في مؤسساته الرسمية، بل كذلك في تضارب أهوائه واتجاهات التفكير فيه. ولن يكون الإنقاذ أو الخروج من هذا المناخ مرهوناً فقط بتسوية جديدة على اقتسام السلطة بين مكوّناتها القائمة، بل من خلال البحث الجدي عن نظام يناسب كل هذه التحديات.