الكيان الصهيوني يحمل بذور فنائه
د.عبد الحي زلوم
استذكار التاريخ ليس ترفاً ولا جلداً للذات لكنه ضرورة قصوى لاستقراء المستقبل لكي لا يجلدنا الاخرون. وضرورة مراجعة تاريخنا لآخر مئة سنة اكثر ضرورة حيث تم تزويره ضمن برامج غسيل دماغ الاجيال وتجهيلها.
في الوقت الذي ساعد الانتداب البريطاني الوكالة اليهودية خلال 30 سنة لتأسيس بُنية دولة بما فيها كافة مؤسسات الدولة والجيش ومصانع الاسلحة السرية، كان يُحكم بالاعدام أو المؤبد على الفلسطيني الذي يمتلكُ رصاصة واحدة! كما عمل الانتداب البريطاني على اضطهاد وخلق القيادات الفلسطينية وقمع ثوراتها وانتفاضاتها المتعددة مما اضطره لاحضار 20 الف جندي من بريطانيا لاخماد ثورة 1936.
بعد مسرحية حرب 1948 وإعلان دولة يهودية في فلسطين وجدت الدولة الجديدة نفسها أمام تحديات كبيرة وعديدة: اجتماعية،عقائدية، جغرافية، ديموغرافية ، واقتصادية شكلت تهديداً لها منذ الأيام الأولى لتتعاظم مع الوقت لتصل مرحلة الخطر بحلول عام 1967.
شكلت الهجرة العامل الرئيسي وراء نمو الجالية اليهودية في فلسطين وبذلك لم يكن نمواً طبيعياً، وبالتالي فقد تسبب بالكثير من المشاكل لولا مسرحية حرب 1967.
ولعل من أهم نتائج هذه المشاكل وخصوصاً الثقافية والاقتصادية أن تنامت الهجرة العكسية لدرجة اقلقت سلطات الكيان .
الثورة الدّيموغرافية اليهودية:
تعود بدايات شكوى اليهود الغربيين (الأشكناز) تجاه ما اعتبروه تهديدات مدمرة تتعرض لها الثقافة الإسرائيلية من تدفق المهاجرين اليهود القادمين من الدول العربية، وبخاصة من العراق ودول شمال إفريقيا، إلى مرحلة مبكرة من عمر الدولة وتحديداً لعام1950. سرعان ما تعالت الأصوات المحذرة من تنامي قوة اليهود الشرقيين، والإعراب عن رفضهم للثقافة الميزراحية التي بدأت تتغلغل في الثقافة الإسرائيلية:” لا نستطيع التحول إلى شعب ميزراحي” كما يقول المؤلف حاييم حازاز، الذي أضاف موضحاً: "إنني اعترض بشدة على هذا الأمر. لقد عشنا حياة شتات على مدار ألفي عام قبل أن يصبح لنا كيان ثقافي أوروبي.. لا نستطيع إعادة العجلة إلى الوراء ونقبل بثقافة اليمن والمغرب والعراق.” ومضى حازاز محذراً: "نحن إنما نقترب من جرف الهاوية فيما يتعلق بالثقافة الشرقية”.
وفي ظل ارتفاع معدلات الخصوبة في أوساط اليهود الشرقيين، أعرب العديد من الأشكناز عن خشيتهم من ظهور جيل يصبح فيه ثلاثة أرباع الإسرائيليين من اليهود المنكرين للثقافة الغربية. وفي ذلك يقول شابتاي تيفيث بأن مثل هذا الجيل سيكون أقرب إلى ” ثقافة المحيطين بنا”.
لم يقتصر القلق من تنامي خطر اليهود الشرقيين على الهوية الإسرائيلية على النخبة. فهذا ليفي إيشكول، أحد أبرز الزعماء الأوائل في الكيان الإسرائيلي يشعر بأن اليهود الشرقيين تحولوا إلى عبء على الدولة والمجتمع على حد سواء وعليه فقد طالب وقتها بالتركيز على تشجيع هجرة اليهود الغربيين. الجدير بالذكر أنه وبالرغم من عقلية إيشكول البراغماتية التي دفعته للقبول بالتقسيم، إلا أنه كان يريد من الكيان الإسرائيلي الامتداد على أكبر مساحة ممكنة. ولهذا نجده يكتب في عام 1927 قائلاً:” كانت الضفة الشرقية لنهر الأردن ولا تزال الحلم الدائم الذي يراود كل شاب وشابة في أرض "إسرائيل" منذ قديم الزمن”.
في منتصف الستينات، شهد الكيان الإسرائيلي ثورة ديموغرافية .. فلأول مرة منذ إقامة الدولة أصبح عدد اليهود الغربيين أقل من اليهود الشرقيين، الميزراح. في عام 1950 كان الإشكناز يمثلون 80% من السكان اليهود ليتغير الوضع بعدها بسنوات، حيث أصبح الميزراح هم الأغلبية في البلاد. ففي عام 1967 كان 60% من تلامذة المدارس الجدد مولودين لأبوين من الميزراح. وفي العام التالي تراجعت نسبة التلامذة المنتسبين لعائلة أشكنازية إلى 30%.
التمييز يطال اليهود الشرقيين أيضاً ! :
تحدث تقرير رفعه السفير الأمريكي لدى الكيان الإسرائيلي وولورث باربوور، إلى رؤسائه في واشنطن، عن تفرقة عنصرية تمارس ضد اليهود الشرقيين – الميزراح – لصالح اليهود الغربيين – الأشكيناز_. ومما أكده السفير فإن من السهل تمييز مظاهر هذه التفرقة في معظم مناحي الحياة: التعليم، الإسكان والتوظيف. الواقع أن هناك نوعاً من الفصل العنصري بين اليهود الغربيين والشرقيين، حيث تعيش الفئة الأخيرة في مناطق غيتو منعزلة. وتوصل السفير في تقريره لقناعة مؤداها أن الانتماء العرقي، أكثر من أي شيء آخر، هو الذي يحدد مستقبل الفرد في الكيان الإسرائيلي ، وأضاف السفير بأن هذه القضية تشكل مصدر الخطر الأكبر على مستقبل دولة الكيان الإسرائيلي. وتشير الإحصائيات إلى أن العائلة الأشكنازية تكسب أكثر من العائلة المزراحية، وفي قطاعات العمل كافة وبمعدل 55% على الأقل . ومن المؤشرات الصارخة على هذا التمييز حقيقة أنه حتى 1967 لم يكن هناك حتى جنرال واحد في الجيش الإسرائيلي من اليهود الشرقيين، وكذلك لم تتجاوز حصة الشرقيين في الكنيست25 عضواً من أصل 120 يشكلون عدد أعضاء المجلس، أما حصتهم في الحكومة آنذاك فلم تتجاوز حقيبتين ثانويتين.
التمييز ضد الفلسطينيين:
إذا كان هذا حال اليهود القادمين من البلدان العربية في الكيان الإسرائيلي ، فإن التمييز العنصري الذي يعاني منه العرب الفلسطينيون ممن صمدوا في أرضهم، اتخذ أشكالاً وأبعادا غير مسبوقة. فهذا بن غوريون يعلن عام 1950 رفضه وجودهم في الكيان الإسرائيلي بالقول: ” هؤلاء العرب لا يجب أن يعيشوا هنا، بالقدر نفسه الذي لا ينبغي فيه على اليهود الأمريكيين العيش في أمريكا.” وعليه ومن خلال انتهاج أساليب الترهيب المختلفة والتخطيط الدقيق الذي قامت به لجنة التهجير اليهودية، أصبح أكثر من80% من عرب فلسطين لاجئين خارج حدود الدولة اليهودية. أما من صمد هناك فأصبح يحمل الجنسية الإسرائيلية، إلا أنه لا يزال مواطناً من الدرجة الثالثة. بحلول عام 1967 كان العرب الفلسطينيون قد أصبحوا يشكلون 12% من سكان الكيان الإسرائيلي أو 312 ألف نسمة 60% منهم ولدوا بعد قيام الكيان الإسرائيلي.
وفي ذلك يقول المؤرخ الإسرائيلي توم سيغيف: "باعتبارهم مواطنين إسرائيليين، فإنه يحق لهم التصويت والترشح لعضوية الكنيست، ومع ذلك فهم لا يتمتعون بالحقوق نفسها التي يتمتع بها اليهود، كما أنه ليس عليهم الواجبات نفسها، والدولة ترى فيهم مصدر خطر على الأمن القومي، كما أنهم يخضعون للأحكام العرفية منذ قيام "اسرائيل". وتجلت قوانين الأحكام العرفية هذه بفرض قيود مشددة على حركة المواطن العربي من خلال فرض التصاريح التي لا يستطيع بدونها الانتقال من مكان لآخر مهما كانت الأسباب سواء أكان ذلك للعلاج أو للعمل أو زيارة أو حتى المشاركة في جنازة الأقارب. وفي هذا الشأن يقول توم سيغيف:
” كان الحصول على تصريح بالحركة يتطلب الوقوف مطولاً في الصفوف ولا يتم الحصول عليها في العادة إلا بعد عملية استجواب مطول. كما أن المزاج الشخصي للمحافظ أو الحاكم العسكري يلعب في الغالب دوراً أساسيا في عملية إصدار التصريح، كما أن الرشاوى تلعب دوراً في بعض الحالات، فلم يكن سائر المحافظين في منعة من قبولها ناهيك عن أوامر الإبعاد التي كانت تجبر عرب "إسرائيل" على مغادرة أماكن سكناهم تحت حجج مختلفة وبخاصة الأسباب الأمنية . غير أن الأحكام العرفية لم تفرض لاعتبارات أمنية فحسب، بل إن مصادرة الأراضي من العرب والسيطرة على أنشطتهم السياسية من الأهداف الحاضرة على الدوام. فخلال السنوات التالية لقيام الكيان الإسرائيلي ، قامت الدولة بمصادرة أكثر من نصف أراضي العرب وحولتها لسلطة الصندوق القومي اليهودي. ومن موقعه كرئيس للصندوق، كان يوسف وويتز يملك صلاحيات واسعة في تخصيص الأراضي الجيدة لفئات معينة من المجتمع اليهودي. يضاف لذلك أن الصندوق القومي يشارك في الحملة الوطنية الخاصة بتدمير بقايا القرى العربية التي تم تفريغها من سكانها خلال حرب الاستقلال”.
ومضى توم سيغيف يقول:” حتى بعد سنوات من قيام الدولة لم تكن 74% من القرى العربية في "اسرائيل" قد تم ربطها بالشبكة الكهربائية، و75% لم يكن يحظى سكانها بمياه صالحة للشرب”.
اضافة الى هذه المشاكل الثقافية و الدّيموغرافية وصل الاقتصاد الى مرحلة الركود والكساد مما جعل الهجرة العكسية الى قدم وساق. وسيكون هذا موضوع المقال القادم.
والملخص:
– عامل الدّيموغرافيا سيكون احد أهم أسباب فشل وزوال هذا الكيان الصهيوني . السبب الرئيسي بالتطرف اليميني لسياسة الكيان المحتل هو تكاثر اليهود الشرقيين فأصبحوا هم الاغلبية . وهم في غالبيتهم ينتمون الى أحزاب اليمين. كانوا هم سبب وصول مناحييم بيغن وحزب الليكود سنة 1977 الى الحكم. وكلما زادت نسبتهم وقوتهم الانتخابية كلما زاد الكيان الصهيوني تطرفاً ولامعقولية مما سيتسبب في انهياره . أما العامل الدّيموغرافي الثاني فهو نتيجة احتلال الضفة الغربية. فقد وصل عدد الفلسطينيين اليوم في فلسطين ما بين النهر والبحر الى ما يزيد عن عدد اليهود ، مما يُعجلُ في وضوح عنصرية دولة الكيان كدولة فصل عنصري لن يقبلها المجتمع الدولي كما لم يقبل دولة افريقيا الجنوبية العنصرية من قبل . واذا ارادت ان تبقى دولة ديمقراطية كما تدعي فستفقد الاغلبية في البرلمان وفي الحكومة.
وفي مقال لاحق سنبين من اجتماعات مجلس الوزراء في الكيان المحتل كما سأفصلها لاحقاً معتمداً على محاضر من ارشيف مجلس الوزراء نفسه حيث كان الوزراء يصفون الدّيموغرافيا الفلسطينية بأنها (قنبلة الارحام).
– أما المطبعون العرب فبالاضافة الى أنهم يظلمون أنفسهم فسوف لن يعاملوا في "اسرائيل" الكبرى الزاحفة نحوهم أفضل مما عومِل به اهل فلسطين كما بينا اعلاه. فلسطينيو الاراضي المحتلة منذ 1967 تم اعتبارهم (مقيمين) وصدقوني أنه بعد زحف "اسرائيل" الكبرى الى دول التطبيع فسيحتاج المطبعون الى (كفيل يهودي) للاقامة في بلادهم!!!
صدق السيد حسن نصر الله حينما وصف سنة 2006 الكيان الصهيوني بأنه أوهن من بيت العنكبوت . وهذا يستحضرني لأن أذكر أن آخر جملة في كتابي (نذر العولمة) الصادر سنة 1998 كانت:”ولقد علمنا التاريخ قديمه منذ أيام الروم والفرس وحديثه قبل بضع سنين في الاتحاد السوفيتي ان كثيراً من الدول تكون في حقيقتها أوهن من بيت العنكبوت.”