هل سيُنفّذ ترامب تهديداته ويأمُر أساطيله باحتجاز الناقلة الإيرانيّة بعد الإفراج عنها؟ وماذا يعني رفض سُلطات جبل طارق الانصِياع لطلبه بمُصادرتها؟
عبدالباري عطوان
رفْض سُلطات جبل طارق البريطانيّة طلبًا أمريكيًّا باحتجاز ناقلة النفط الإيرانيّة "غريس 1” ومُصادرة حُمولتها بناءً على مذكّرة صادرة بهذا الخُصوص يُشكّل صفعةً قويّةً للرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب الذي يقِف خلف هذا الطّلب، وتأكيدًا على "تضعضع” الهيبة الأمريكيّة أوروبيًّا وعالميًّا، ولكن كيف ستتطوّر الأمور، وكيف سيكون الفَصل المُقبل لهذه الأزمة؟
بداية نجد لزامًا علينا التوضيح دون مُواربة والتأكيد بأنّ قرار الرفض قرار بريطاني بالدّرجة الأولى، ولو كانت حكومة بوريس جونسون "المُحافظة” التي ارتكبت خطيئةً كُبرى باحتجاز هذه الناقلة بالأساس تلبيةً لطلب أمريكي قبل ستّة أسابيع، تُريد عدم الإفراج عنها تلبيةً للطّلب الأمريكي لفَعلت ذلك، ولكنّها لم ترِد، تجنّبًا منها للتورّط في أيّ صراع عسكري مع إيران وأذرعها في المِنطقة، وتستّرت خلف محكمة سُلطات جبل طارق، وهذا التصرّف هو عين الحِكمة.
لا نعرِف كيف ستكون الخطوة الاستفزازيّة الأمريكيّة القادمة، فإصدار الأوامر للبوارج العسكريّة الأمريكيّة بالاعتداء على الناقلة التي سترفع العلم الإيراني وستحمل اسمًا جديدًا (أدريان داريا) في محاولة لإجهاض النصر الإيراني، قد يُشعل فتيل حرب الناقلات مُجدّدًا، لأنّ إيران التي أعلن قائد القوّات البحريّة فيها اللواء حسن خانزادي أنها مستعدّة لإرسال أُسطولها لمُرافقة الناقلة لن تسكُت على أيّ "قرصنة” أمريكيّة في هذا الإطار، وسترُد بالقدر نفسه إن لم يكُن أكثر، وتجارب الأشهر الماضية ما زالت ماثِلةً في الأذهان.
بريطانيا الدولة صاحبة السيادة الحقيقيّة في جبل طارق وجّهت صفعتين قويّتين للرئيس ترامب ومُستشاره جون بولتون، الأولى عندما أفرجت عن النّاقلة، والثانية عندما رفضت الطّلب الأمريكي بمُصادرتها، وهذا يعني أنّ احتمالات انضمامها للتحالف البحري الذي يسعى الرئيس الأمريكي لإنشائه لحماية المِلاحة البحَريّة في الخليج الفارسي باتت ضعيفةً، إن لم تكُن معدومةً، بسبب إدارتها للمخاطر المُترتّبة على هذه السياسة الأمريكيّة المُتهوّرة.
قُلناها في هذا المكان قبلًا، ولا مانع من تِكرارها مُجدّدًا، إيران لن تركع ولن ترفع الراية البيضاء، وستُقاوم هذا التجبّر الأمريكي الإسرائيلي بكُل الوسائل حتى النهاية، وترجمت هذا التوجّه عمليًّا عندما أسقطت طائرة مسيّرة أمريكيّة اخترقت أجواءها، واحتجزت ناقلة بريطانيّة بالقوّة واقتادتها إلى ميناء بندر عبّاس في وضَح النهار، وتحت تهديد السلاح، كردٍّ على احتجاز ناقلتها في مضيق جبل طارق، ولا نستبعِد الاستمرار في هذا التحدّي، واحتجاز ناقلة، أو سفينة حربيّة أمريكيّة في مضيق هرمز، أو بحر عُمان، إذا ما أقدمت سُفن الأسطول الأمريكي على احتجاز الناقلة المُفرج عنها في جبل طارق.
للمرّة الأولى تبدو الإدارة الأمريكيّة "معزولةً” في الشرق الأوسط، وعاجزةً عن تشكيل تحالفّ قويٍّ يدعم عُقوباتها الاقتصاديّة ضِد إيران، وهذا مؤشّر قويّ على أنّ سياسات الحِصار المُتهوّرة التي تضرِب إدارة الرئيس ترامب بسيفها يمينًا وشِمالًا، مِثل النمر الجريح، لم تعُد مُجديَةً، وتُعطي ثمارها الترهيبيّة المُرجوّة بالتّالي.
الإيرانيّون الذين يتربّعون على قمّة محور المُقاومة الذي يضُم عدّة دول (سورية العِراق إلى جانب أذرع عسكريّة ضاربة تملك خبرات قتاليّة عالية أقوى من كُل جُيوش دول المِنطقة مِثل "حزب الله، الحشد الشعبي، "أنصار الله”، وحماس والجهاد)، باتوا يملكون اليد العُليا في مِنطقة الشرق الأوسط، مدعومين بقوّةِ ردعٍ عسكريٍّ غير مسبوقة، وما تتعرّض له كُل من المملكة العربيّة السعوديّة وإسرائيل من هجَمات في العُمق في الوقت الراهن إلا مؤشّرات على أحد جوانب الحرب التي تخوضها إيران بالإنابة ضِد الخصم الأمريكي وأتباعه، تمهيدًا للحرب الكُبرى إذا اندلعت.
الرئيس ترامب تعالى وتجبّر، وبالغ في فرض العُقوبات والحِصارات، واعتَقد أنّ القوّة العسكريّة قادرة على إرهاب الخُصوم في الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم، ونسِي أنّه هُزِم في سورية، وفي أفغانستان، وفي العِراق، وسيُهزم في أيّ مُواجهةٍ مُحتملةٍ في مضيق هرمز، فالعِبرة ليس في عدد الأساطيل، أو البوارج الحربيّة، وإنّما بالقُدرة على الصّمود، والنّفس الطويل في الحرب، والاستعداد للتضحية حِفاظًا على الكرامة الوطنيّة، وهذه عناصر متوفّرة كلها لدى محور المُقاومة وفصائله وقيادته.
ننصح الرئيس ترامب بمُراجعة سياساته والكف عن التصعيد، وهو الذي تعهّد في حملته الانتخابيّة بسحب قوّاته من منطقة الشرق الأوسط، وعارض الحُروب فيها، وعدم تقديم مصالح إسرائيل على مصالح بلاده الاستراتيجيّة، حِفاظًا على سُمعة بلاده وهيبتها وتجنّبًا لهزيمةٍ مُكلفة، خاصّةً أنّه يقِف على أعتاب انتخابات رئاسيّة وشيكة، يتطلّع للفوز فيها بولايةٍ ثانية.
نُدرك جيّدًا أنّه لن يستمع لنصائحنا، وربّما لن يسمع عنها، وأيّ نصائح أخرى تحمِل المضمون نفسه من جهات عديدة داخل أمريكا وخارجها، لسببٍ بسيطٍ لأنّ صديقه بنيامين نِتنياهو واللوبي الإسرائيلي في واشنطن يحجِبون عنه كل ما يخدم المصالح الأمريكيّة سواء كان ذلك كبيرًا أو صغيرًا، وما هُبوطه المُؤسف إلى درجةِ التّحريض على منع عُضوتيّ الكونغرس العربيّتين المُسلمتين إلهان عمر ورشيدة طليب من زيارة فِلسطين المحتلّة إلا أحد عناوين هذا الهُبوط.
إيران انتصرت في الجولة الأولى من حرب الناقلات، وستُحافظ على هذا الانتصار وتعزّزه، وباتت بالقياس على الوقائع العمليّة للمُواجهات الأوّليّة في البحار مستعدّة للذهاب حتى آخر الشّوط، ومهما كانت التّكاليف، إلا إذا تراجع الطّرف الآخر واستسلم لشُروطها.. واختار النّزول عن شجرة التّصعيد العالية جدًّا.. وتحلّى بالعقل والحِكمة.. والأيّام بيننا.