روسيا والصين في مواجهة اميركا
جورج حداد
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية عصر القطبين الدوليين: اميركا والاتحاد السوفياتي السابق، فشلت اميركا فشلا ذريعا في الاضطلاع بدور الزعامة الدولية، بوصفها القطب العالمي الاوحد. لا بل ان سمعة اميركا ونفوذها السياسي الدولي تدنيا اكثر من اي وقت مضى، بسبب الحروب الظالمة والاضطرابات التي افتعلتها اميركا في شتى انحاء العالم.
الا ان اميركا، مستندة الى قوتها العسكرية والاقتصادية وخاصة الى الوضع المميز الذي تشغله في النظام المالي والبنكي الدولي باعتبار الدولار الورقي البدون تغطية ذهبية انه العملة الدولية الاولى لجميع بلدان العالم، وللدول الصديقة وغير الصديقة لاميركا على السواء، ـ نقول ان اميركا، مستندة الى هذا الوضع لم تستسلم، وانتهجت سياسة رعناء تهدف الى فرض زعامتها بالقوة والاكراه. وتجلى ذلك بوضوح في العلاقة الاميركية الاستعلائية والاذلالية مع اصدقائها التقليديين: الاتحاد الاوروبي ودول حلف الناتو وكندا والمكسيك والدول النفطية العربية الذليلة اصلا.
ولكن ابشع ما تجلت به المشهدية السلبية لاميركا هو سياستها المنهجية الاستكبارية والعدائية ضد القطبين العالميين العظيمين: روسيا والصين، ضاربة عرض الحائط بالتاريخ المجيد والدور الحضاري الكبير لهذين البلدين والشعبين العظيمين.
فمنذ عشرين سنة ـ اي منذ مجيء بوتين الى السلطة وتمسكه باقامة علاقات متوازنة مع الغرب ووقف نهب بلاده من قبل الرأسمال الاحتكاري الاجنبي تحت غطاء "اقتصاد السوق" ـ بدأت اميركا تمارس سياسة عدائية شديدة ضد روسيا. فعملت على توسيع حلف الناتو نحو الشرق للاقتراب اكثر من الحدود الروسية لاهداف عسكرية عدوانية، وعملت على نشر منظومة الصواريخ المضادة للصواريخ في اوروبا الشرقية لتعطيل القدرات الدفاعية لروسيا، واخذت تحرض بلدان الاتحاد الاوروبي لانتهاج سياسة معادية لروسيا، واثارت الثورة الملونة في كل من اوكرانيا وجورجيا وافتعلت الازمات بين هذين البلدين وبين روسيا. وحرضت الانظمة الموالية للغرب في دول البلطيق ضد المواطنين الروس العائشين في تلك البلدان والذين كان لهم الفضل الاول في تحريرها من الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية وفي اعادة بنائها بعد الحرب. وعملت اميركا بشكل محموم على عرقلة تسويق الغاز الروسي في اوروبا. كما عملت على طرد روسيا من الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية في اوروبا وحصرها في اسيا. وطبقت بشكل متصاعد فرض العقوبات الاقتصادية الشديدة ضد روسيا لتدمير الاقتصاد الروسي وتجويع الشعب الروسي بذرائع واهية وكاذبة ومفبركة مثل:
ـ استخدام النظام السوري الاسلحة الكيماوية ضد المدنيين، بتغطية روسية.
ـ مسرحية تسميم الجاسوس البريطاني سكريبال وابنته في بريطانيا.
ـ وحتى اكذوبة التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الاميركية التي فاز فيها ترامب سنة 2016.
واخيرا لا آخر: انسحبت اميركا من اتفاقية الغاء وعدم انتاج الصواريخ قريبة ومتوسطة المدى، وعادت لانتاج مثل هذه الصواريخ التي تهدد عن قرب الامن الروسي.
اما حيال الصين فقد استقبلت اميركا بعداء شديد البرنامج الصيني العالمي العظيم المسمى "حزام واحد ـ طريق واحد" والهادف الى خلق مدى عالمي مفتوح لانتقال السلع والناس والافكار، والذي انضمت اليه حتى الان 60 دولة في آسيا والشرق الاوسط واوروبا وافريقيا، وعلى رأسها روسيا.
ورفعت اميركا بوجه الصين ستار الحماية الجمركية وفرضت رسوما اضافية على السلع الصينية المستوردة بقيمة تبلغ مئات مليارات الدولارات. وشنت ضدها الحرب التجارية بصورة غير مبررة. وشرعت في تطبيق العقوبات الاقتصادية ضدها. وكل ذلك بقصد عرقلة تقدم الصين نحو ازاحة اميركا واخذ مكانها في مرتبة اكبر "اقتصاد وطني" في العالم. وتشجع اميركا جزيرة تايوان على اعلان الانفصال والتحول الى دولة مستقلة مما يعتبر تحديا كبيرا للصين وتهديدا لوحدتها الوطنية. ولهذه الغاية تزود اميركا تايوان بكل انواع الاسلحة وتحشد حولها الاساطيل لحمايتها.
كل ذلك دفع ويدفع روسيا والصين الى تسوية واستبعاد اي اختلاف فيما بينهما، والى التقارب الى درجة التحالف الوثيق دون ان يوجد الى اليوم حلف رسمي يجمعهما.
واخذت روسيا والصين تتعاونان وتنسقان المواقف فيما بينهما، سياسيا وماليا واقتصاديا وعسكريا. ونشير بشكل خاص الى التنسيق شبه الكامل في مواقف البلدين في الامم المتحدة وفي مجلس الامن الدولي.
وقد دعمت الصين السياسة الروسية في سوريا واوكرانيا. ومن المرجح ان تضطلع الصين بدور رئيسي في اعادة اعمار سوريا بعد نهاية الحرب.
واصبحت روسيا المصدّر الاول للنفط الى الصين اكثر من السعودية. كما ازداد استيراد الصين من الغاز الروسي اكثر من الدول الاوروبية مجتمعة.
وتطبق الدولتان معا السياسة المالية القائمة على التعامل بالعملات الوطنية ونزع الدولرة او الغاء التعامل بالدولار dedolarization. وتزيد روسيا احتياطاتها ليس فقط من الذهب، بل ومن اليوان الصيني ايضا. وارتفعت نسبة الاحتياطي الروسي من اليوان سنة 2018 من 3% الى 14%، فيما انخفضت نسبة الاحتياطي الروسي من الدولارات من 50% الى 23%. وقد ادخلت 60 دولة في العالم اليوان الصيني في احتياطاتها بالعملات الاجنبية، وبينها المانيا، فرنسا وايطاليا. وهذا يمثل صفعة للدولار وللنظام المالي العالمي لاميركا.
وقد انضمت روسيا الى نظام المدفوعات البنكية الذي انشأته الصين بمعزل عن النظام الاميركي ويسمى (Cross-border Interbank Payment System)، وهو يخدم 900 بنك خارج الصين ويغطي اراضي 162 بلدا ومنطقة.
وفي النطاق العسكري من المعلوم ان اميركا حشدت بكثافة اساطيلها البحرية في القطاع الاسيوي من المحيط الهادي، وفي جميع البحار المحيطة بالصين، والاساطيل الجوية وقوات الانزال الخاصة البحرية والجوية في كل من اليابان وتايوان وكوريا الجنوبية، من اجل احكام الطوق تماما حول الصين، بحرا وبرا وجوا، استعدادا لتوجيه ضربة خاطفة وكاسحة ضدها في الوقت المناسب.
وللوقوف بوجه هذه المخاطر بدأت روسيا والصين بإجراء مناورات تدريبية مشتركة في بحر الصين والمحيط الهادي والمحيط المتجمد الشمالي وفي بحر البلطيق وعلى الحدود المشتركة بين البلدين. وفي السنة الماضية جرت في بحر الصين مناورات ضخمة جدا تحت اسم "الشرق ـ 2018" حضرها الرئيسان الروسي والصيني ووزيرا الدفاع لكلا البلدين، وشارك فيها مئات ألاف الجنود والضباط الروس والصينيين، من جميع الاسلحة، ومئات السفن الحربية والغواصات والطائرات المقاتلة والقاذفات الستراتيجية والطائرات الرادارية ـ التجسسية، ووحدات الصواريخ من جميع الابعاد، والوف القطع الحربية الاخرى.
ونشير هنا الى الحدث البارز التالي، الذي يكتسب اهمية حاصة في التاريخ العسكري وسيكون له تداعياته في الجيوستراتيجية العالمية برمتها:
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والاساطيل الاميركية تحتشد في القسم الاسيوي من المحيط الهادي وتجوب بحرية هذا القطاع البحري الواسع وشديد الاهمية بالنسبة للشرق الاقصى برمته، بدون ان يشاركها فيه اي مشارك او يزاحمها اي مزاحم. وفي 23 تموز/ يوليو الماضي ذهل الاميركيون وهم يشاهدون اسرابا مكثفة من الطيران الحربي الروسي والصيني، وهي تقوم بدورية استطلاع مشتركة فوق رؤوسهم في المحيط الهادي، بما فيها القاذفات الستراتيحية العملاقة التي تحمل صواريخ جو ـ بحر ومنها الصواريخ المخصصة لابادة حاملات الطائرات والغواصات التي تسير بالوقود النووي. ومنذ ذلك التاريخ وهذه الدوريات الروسية ـ الصينية لا تتوقف. والاميركيون لا يستطيعون ان يفعلوا شيئا، وقد ادركوا ان اساطيلهم في هذا القطاع فقدت قيمتها العسكرية ولم تعد اكثر من توابيت عائمة للجنود والضباط الاميركيين المسلوخين عن عائلاتهم والمرسلين اكثر من عشرة الاف كيلومتر بعيدا عن بيوتهم والمهددين بالموت الزؤام دفاعا عن الاحتكارات الرأسمالية للامبريالية الاميركية واليهودية العالمية.