غطرسة صهيونية يقابلها عجز عربي
د. يوسف مكي
إثر حرب أكتوبر عام 1973، بدأ توجه قيادات دول الطوق، نحو تسوية سلمية للصراع العربي الصهيوني. وكانت بداية ذلك الرحلات المكوكية التي قام بها هنري كيسنجر، مستشار الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون لشؤون الأمن القومي. وقد نتج عنها فك ارتباط بين جيش الاحتلال الصهيوني، مع الجيوش العربية، على الجبهتين المصرية والسورية. وعرفت محاولات كيسنجر تلك للتوصل إلى حل سياسي للصراع، بسياسة الخطوة خطوة.
آنذاك ساد قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وبشكل خاص لدى الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، اعتقاد بأن القرار الصادر عن مجلس الأمن الدولي، 338، تجاهل تماماً حقوق الفلسطينيين، في نصوصه، واستند إلى قرار سابق صدر عن مجلس الأمن بعد حرب يونيو/حزيران عام 1967، وحمل رقم 242 تناول المسألة الفلسطينية، باعتبارها قضية لاجئين وليست قضية شعب له كامل الحقوق في الحرية وتقرير المصير.
دفعت هذه الخشية الرئيس عرفات، لإعطاء توجيهاته لممثلي منظمة التحرير بالعواصم الأوروبية، للتبشير بفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة، التي ستقام فقط على الأراضي التي احتلها الصهاينة في حرب يونيو.
بدأ ممثل المنظمة في العاصمة البريطانية لندن، سعيد حمامي هذه الحملة، في 16 نوفمبر عام 1973، قبل أقل من مرور شهرين على وقف إطلاق النار، في معركة العبور، بتقديم مشروع لحل المشكلة الفلسطينية، نشر في مجلة "التايم". وأكد مشروع حمامي حق الشعب الفلسطيني، في المشاركة بمؤتمر السلام الدولي، على قدم المساواة مع كل الأطراف الأخرى، المنخرطة في الصراع العربي- الصهيوني، انسجاما مع ميثاق هيئة الأمم المتحدة، الذي يؤكد على حق الشعوب في تقرير المصير.
ومن أجل تحقيق هذا الهدف، اقترح حمامي قيام دولة فلسطينية، في قطاع غزة والضفة الغربية. ونشرت هذه المقالة، قبل تحديد منظمة التحرير الفلسطينية موقفها من عملية السلام، وفي معرض تبريره لهذا المشروع، نشر حمامي مقالة في اليوم التالي الموافق 16 من نوفمبر، أوضح فيها أن تحقيق المشروع الذي اقترحه ليس بالأمر الهين. ومن وجهة نظره، فإن الحلول الكاملة والنهائية بطبيعتها يتطلب تحقيقها أمداً طويلاً. إن حالة الشراكة بين الغرماء، تنشأ فقط عندما يرغبها الطرفان بصدق..إن عقوداً من العداوة لا تمنح قاعدة جيدة لفهم مباشر، وأن الخطوة الأولى بهذا الاتجاه، يجب أن تكون الاعتراف المشترك بوجهتي نظر الطرفين.
إن القيادة الفلسطينية، تعلم كم هو صعب أن تقنع شعباً عومل بقسوة وخطأ كما عومل الفلسطينيون، أن يقدم على الخطوة الأولى باتجاه التسوية، من أجل سلام عادل مرضٍ لكل الأطراف، وإلى هذا الحد فقط، لا أبعد من ذلك نستطيع المضي... إننا الآن ننتظر دور العالم.
دفع حمامي حياته، ثمناً لكتاباته هذه، عندما اغتيل من قبل مجموعة أبو نضال عام 1978، وبقي حلمه في تسوية، حتى وإن تكن غير عادلة مؤجلاً.
لقد تنازل الفلسطينييون، عن حقهم الطبيعي، الذي كفلته شرعة الأمم، وقبلوا بتأسيس كيان خاص بهم، في جزء من فلسطين التاريخية. وأملوا أن بتنازلهم هذا، سيسرعون في إنهاء معاناتهم، ولم يكن اتخاذ هذا القرار سهلاً، ولم يكن أيضاً منطقياً أن يتنازل شعب عن حقه في أرضه. وكان منطق عرفات، أن الظروف الدولية، وتوازنات القوة، وانحياز الدول الغربية للكيان الصهيوني، لن تتيح للفلسطينيين، تحرير كامل أرضهم، وأن جل ما يستطيعون تحقيقه، هو قيام دولة فوق الأراضي الفلسطينية التي تم احتلالها عام 1967.
وهكذا تبنت منظمة التحرير الفلسطينية، شعار المرحلية، خذ وطالب، كاستراتيجية بعيدة المدى للتحرير. وشجع على ذلك، أن قادة الصهاينة، أعلنوا مراراً، أن جل ما يطمحون له هو اعتراف العرب بوجودهم، في حدودها، منذ النكبة عام 1948، وأن المجتمع الدولي، يعتبر الاحتلال "الإسرائيلي"، للقدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، غير شرعي. ونص قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، عام 1967، على عدم جواز احتلال الأراضي بالقوة، وأكد انسحاب الاحتلال "الإسرائيلي" منها.
ومنذ ذلك التاريخ، أخذ النضال الفلسطيني، شكلاً سياسياً، وتراجع شعار الكفاح المسلح. وكلما مر الوقت، تراجع مشروع التحرير، وتحقق للصهاينة اكتساب المزيد من الأراضي الفلسطينية.
وحين اندلعت انتفاضة أطفال الحجارة، استثمرتها منظمة التحرير بإعلان وثيقة الاستقلال الفلسطيني، التي تعهدت فيها التخلي النهائي عن الكفاح المسلح، واعتماد التسوية السلمية، وليترجم ذلك بانضمام الوفد الفلسطيني، إلى مؤتمر مدريد، عام 1990، برعاية أمريكية.
وقع الفلسطينيون مع الصهاينة اتفاقية أوسلو، عام 1993، التي نصت على أن المرحلة النهائية من المفاوضات ستأخذ مكانها، بعد خمس سنوات من توقيع الاتفاقية، حيث يجري الإعلان عن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة، مع تعديلات طفيفة ومتبادلة على الحدود.
مرت قرابة أربعين عاماً، منذ اتجهت القيادة الفلسطينية نحو التسوية، ومضى واحد وعشرون عاماً، على توقيع اتفاقية أوسلو، وخلالها طرحت المبادرة العربية لتسوية الصراع، وتفاهمات جورج ميتشل، وعقدت مؤتمرات عدة، لكن من دون جدوى. فقد واصل العدو بناء الجدران العازلة، والطرق الالتفافية في الضفة الغربية، وبناء المستوطنات. وكلما تعثرت مسيرة التسوية، بسبب مماطلة العدو وتسويفه، كلما تآكلت الحقوق الفلسطينية.
لقد أعلن رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو بشكل وقح، أن القدس ستبقى للأبد جزءاً لا يتجزأ من الكيان الغاصب. وبذلك أغلق نهائياً أبواب الحل. ولا يبقى للفلسطينيين خيار، سوى اللجوء إلى وسائل أخرى، تكفل استرجاع حقوقهم.
لا مناص من وضع حد للعجز العربي، والتحرك بشكل عاجل وعلى أعلى المستويات، لوضع حد للنهج التوسعي الصهيوني. مطلوب موقف يقوم بمراجعة جذرية وشاملة لمسيرة التسوية، التي مضى عليها أربعون عاماً. وسيكون على الفلسطينيين اعتماد خيارات أخرى، غير خيار القبول بالتسويف والمماطلة. وما لم يتحقق ذلك فلن يبقى أمام الفلسطينيين ما يتفاوضون عليه.