السويد أحرجت العرب
فهمي هويدي
في الوقت الذي سكتت فيه الحكومات العربية على إغلاق "إسرائيل” للمسجد الأقصى، لأول مرة منذ 14 عاماً، فإن حكومة السويد أعلنت في 30/10 قرارها التاريخي الاعتراف بدولة فلسطين، ومن ثم أطلقت بادرة هي الأولى من نوعها بالنسبة للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي - صحيح أن مجلس العموم البريطاني كان قد صوت لصالح دولة فلسطين في شهر أكتوبر الماضي، إلا أن ذلك كانت له دلالته الرمزية والمعنوية، الأمر الذي دفع فرنسا إلى الإعلان عن أن ذلك الاعتراف سيتم "يوماً ما”.
هذا التطور الإيجابي في الموقف الأوروبي إزاء القضية الفلسطينية له شواهد أخرى عدة، ففي شهر أكتوبر الماضي - وبضغط من النشطاء - تم استبعاد "إسرائيل” من المناورات الحربية التي كان مزمعا إقامتها في جزيرة سردينيا بإيطاليا.
وفي الشهر ذاته جرى منع سفينة "زيم” الإسرائيلية من الرسو والإنزال بميناء أوكلاند على الساحل الغربي الأمريكي.
يحدث ذلك في حين تزداد حملة مقاطعة "إسرائيل” اتساعاً، سواء على صعيد العلاقات الأكاديمية والثقافية أو العلاقات الاقتصادية، وقد تصاعدت تلك الحملة إبان الاعتداء الإسرائيلي على غزة في شهر يوليو الماضي، الأمر الذي دفع 150 مثقفاً أيرلندياً إلى إصدار بيان أعلن مقاطعتها الثقافية والأكاديمية. وكان للفنانين دورهم الملحوظ في هذا المسار، ومن الذين أعلنوا تأييدهم لمقاطعة "إسرائيل” المغنى الشهر روجر ووترز "فرقة بلند فلويد” والكاتبة الكندية ناعومي كلاين والأمريكية أليس ووكر والموسيقي ألفيس كوستيللو والمخرج البريطاني كن لوتش الحائز على جائزة "كان” والكاتب البريطاني جون يرجر. وهناك آخرون ألغوا أنشطتهم الفنية في تل أبيب مثل فرقة ذا بيكسيز، والمغني الشهير بونو، والفرنسية فانيسا بارادي، ومغني الراب سنوب دوغ.. إلخ. أما حملة مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية المقامة بصورة غير شرعية فوق الأراضي المحتلة فقد اتسع نطاقها حتى قدرت الخسائر الناجمة عنها بنحو أربعة مليارات دولار.
هذا الذي يحدث في العالم الغربي جدير بالتقدير والحفاوة، لأنه يعني ببساطة أن الغشاوة التي غطت الأعين وحملات التضليل التي خدعت كثيرين والدعايات الإسرائيلية المسمومة، ذلك كله له أجله المحدود وما كان له أن يستمر. سواء لأن ثورة الاتصال فتحت الأعين على ما كان محجوبا أو لأن الممارسات والعربدات الإسرائيلية صارت من الفظاظة والبشاعة حيث إنها صدمت مشاعر الغربيين ونبهتهم إلى ما غفلوا عنه طويلاً. كما أننا لا نستطيع أن نغفل في هذا الصدد دور النشطاء العرب المتجنسين أو الأوروبيين أو عناصر حملة مقاطعة "إسرائيل” الفاعلة في الضفة الغربية.
المفارقة التي تستحق تنويها ودراسة أنه في الوقت الذي ارتفعت فيه أسهم القضية الفلسطينية في العالم الغربي، فإنها تراجعت بصورة مقلقة في العالم العربي، وسوف تدهشنا حقيقة أن الربيع العربي الذي تعلقت به الآمال الكبار في عام 2011، واجه انتكاسات جعلت "إسرائيل” المستفيد الأكبر منه، بدلاً من أن تكون المصدوم الأول من وقوعه.
ذلك أن أحداً لا يستطيع أن ينكر أن القضية الفلسطينية لم تعد قضية العرب المركزية، ولا قضية العرب الأولى، حتى أزعم أن القرار السويدي أحرج النظام العربي. ذلك أن العالم العربي بأنظمته ونخبه وإعلامه أصبح مشغولاً بصراعاته الداخلية وحروبه الأهلية، ضد داعش وجبهة النصرة وأنصار الشريعة والحوثيين والإرهاب.. إلخ. وجدير بالذكر أنه في السابق كانت "إسرائيل” تبذل جهداً لإلهاء العرب من خلال إقناعهم بأن إيران هي العدو وليست هي، لكننا أعفيناها من ذلك الجهد الآن وانصرفنا عنها برغبة منا إلى الاشتباك مع غيرها.
لم تكتف "إسرائيل” بذلك، ولكنها نشطت في العالم العربي على أكثر من جهة. فقد اعتبرت نفسها حليفاً لبعض الأنظمة العربية ضد "الإرهاب”، حتى اصطفت معها تلك الأنظمة في الحرب على المقاومة وحصار غزة. في الوقت ذاته فإنها تمددت اقتصادياً وتجارياً في العالم العربي، خصوصاً منطقة الخليج التي تجاوز فيها الحضور الإسرائيلي تلك الحدود، حتى صار لها دورها في بعض الأنشطة الأمنية. ومن ثم فلم يعد التطبيع مقصوراً على بعض الدول التي عقدت اتفاقات سلام مع الدولة العبرية، ولكنه تجاوز تلك الصيغة بمراحل، مع دول لم توقع تلك الاتفاقات، لكنها حرصت على أن تبقى العلاقات المتنامية واقعاً مسكوتاً عليه وغير معلن، وفي هذه الأجواء فإن الحديث عن مقاطعة "إسرائيل” لم يعد واردا وأصبح حبراً على ورق، أستثني من ذلك الكويت التي لا تزال حركة المقاطعة نشطة فيها. وقد حققت عدة نجاحات في مواجهة محاولات التسلل الإسرائيلي إلى أسواقها.
تتواصل المفارقات حين نلاحظ أن قلق السلطات الإسرائيلية من التحولات الحاصلة في العالم الغربي أصبح أكبر من قلقها إزاء التحولات المتلاحقة في العالم العربي. ذلك أن من شأن الأولى أن تهدد مصالحها ومخططاتها المستقبلية، أما بالنسبة للعالم العربي فإن "إسرائيل” أصبحت مطمئنة إلى أن مصالحها في الحفظ والصون، خصوصاً من جانب الدول العربية الكبرى. ذلك أن سلطاتها أقامت خلال سنوات الثورة الثلاث علاقات وثيقة للغاية مع القادة الإسرائيليين أدهشت بعضهم، حتى إن وزير الحرب موشى يعالون ادعى في حوار أجرته معه قناة "بلومبرج” الأمريكية أن "إسرائيل” مع مصر والسعودية والإمارات يشكلون الآن جبهة واحدة لهم نفس الأعداء.
لا أستبعد أن يكون ذلك الإطمئنان الإسرائيلي إلى الجبهة العربية (إلى جانب شك تل أبيب في تفاهمات واشنطن مع طهران) من بين الأسباب التي شجعت رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو على تحدي الإدارة الأمريكية، حتى نقل عنه مؤخراً قوله إنه قرر شطب الرئيس أوباما من حساباته، وأنه سوف يخاطب الولايات المتحدة من خلال الكونجرس والحديث المباشر إلى الشعب الأمريكي.
لقد خسرت "إسرائيل” بسقوط مبارك "كنزها الاستراتيجي”، لكن الربيع العربي أهدى إليها "منجمًاً” حافلًا بالكنوز.