عندما يُنحر الإصلاح وتُسلخ الحقيقة
* بقلم – جميل ظاهري
".. اني لم اخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدّي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي (ص) وأبي علي بن أبي طالب (ع) فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن رد على هذا اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق وهو خير الحاكمين.."- من وصية الامام الحسين بن علي عليهما السلام لأخيه محمد بن الحنفية حين خروجه من المدينة عام 60 للهجرة .
التاريخ يعيد نفسه على طول امتداده مراراً والطواغيت وحكام الزور والفراعنة يتوارثون السلطة نسلاً عن نسل ويسيرون على النهج ذاته في قمع الحرية واللعب بالدين وعقائد الأمة وكم الأفواه والتعتيم على الحقيقة وتحريف الواقع وتزييف الاحكام السماوية وتزوير الأحاديث النبوية وما أوصى به خاتم المرسلين (ص) للأمة للالتزام به كي لا تضلُ من بعده أبداً فأبعدوا من نصبه الله سبحانه وتعالى وبنص صريح ولي للأمر وابتدعوا هم ولاية الأمر لأنفسهم فتوارث الأحفاد من الأجداد هذه الخدعة ودفعوا بها نحو فرض السطوة والسيطرة وعودة الأمة الى الجاهلية والظلمة والظلامة التي كانت تعيشها قبل بزوغ شمس الحرية والعدالة والمساواة والعلم والنور بظهور الاسلام ليضحى الدين كله على البشرية نحو الاستقرار والأمن والعيش السليم والأمان بين مختلف طبقات وأديان وطوائف وقوميات المجتمع البشري .
هذا الأمر لا يليق لمن كان يسطو ويغزو وينهب أموال الناس ويسلبهم ممتلكاتهم وينتهك أعراضهم ويسوق نساءهم وأطفالهم سبايا وعبيد يباعون في أسواق النخاسة؛ ما دفعهم للانقلاب على الواقع والحقيقة والوصية السماوية والأوامر الألهية ما أن أغمضت عيني نبي الرحمة وفارقت روحه الطاهرة الحياة لتلتحق بربها بكل شوق وأماني، والعودة نحو الجاهلية البخيسة التي كانت تغوص بوحلها القذر قبل الإتيان بدين الرحمة والرأفة بعيداً عن شحذ السيوف والسكاكين لتقطيع أجساد بعضها البعض وأكل الأكباد التي كانت تعيشه ولقرون طويلة وهي لا تزال متلاصقة مع لحظات نزول الوحي والآيات الكريمة وأوامر الخالق المتعال؛ فاغتصبت الحقوق وضاعت الوصية وسرعان ما دفعوا بالقرآن الكريم الى رفوف البيوت بعيداً عن السير بما أوتي به وأوصى به النبي الكريم (ص) ليعيدوا ترتيب وتشكيل سطوتهم وحكومتهم على ما كانوا عليه في عهد الظلام ومجامعة الأمة والأخت ورفع الرايات الحمراء على البيوت .
"إنّا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب خمر قاتل النفس المحرمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون ننتظر وتنتظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة" – من كلام الإمام الحسين (ع) في مجلس الوليد الذي دعاه لبيعة يزيد .
سنوات قليلة جداً كانت هي الفاصل بين "رزية الخميس" التي جمعت عدداً من القوم في "سقيفة بني ساعدة" والانقلاب على وصية الرسول المصطفى (ص) وبين نهضة عاشوراء الدم والتضحية والاباء والفداء بكل ما هو غال ونفيس لعودة الأمة نحو الاصلاح والصلاح في أمة كانت ولا تزال شيمتها الغدر والخيانة والكذب والنفاق والتضليل والتزييف والانحراف والتزوير، وأضحى قادتها منافقين قاسطين مارقين يحاربون الحق والحقيقة والقرآن والسنة حباً وطمعاً بالسلطة والثروة والمقام والحكم والجبروت والفرعنة بكم الأفواه والقبضة الحديدية والقمع والتنكيل وتكفير الآخر واستباحة دمه وعرضه وماله وحرق الأخضر واليابس وفعلوا ما فعلوا أبناء البغاة ومداعبي القردة وشياطين العصر ممن نصب أنفسهم ولاة للأمر على الأمة من الأفعال الشنيعة والبشعة يندى لها جبين التاريخ خلال السنوات الثلاث من حكمهم حتى أن بيت الله العتيق لم ولن يسلم من حقدهم وعداوتهم وشقائهم على الاسلام وأهل بيت النبوة والامامة الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا (سورة الاحزاب – الآية 33) .
"إنه قد نزل من الأمر ما قد ترون، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت وأدبر معروفها، واستمرت جدّاً ولم يبق منها الا صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون إلى الحق لا يعمل به، والى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء ربه حقا حقاً، فاني لا أرى الموت الا سعادةً، والحياة مع الظالمين الا برما... أن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درّت معايشهم فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الدّيانون" – من كلام الامام الحسين (ع) في خطبة له بعد أن صلّى باصحابه وبجيش الحر الرياحي قبل ان يلتحق بالامام (ع) في كربلاء .
لقد نحروا الإصلاح وأراقوا دم أطهر البشرية وأزكاها وأنقاها وأعظمها وأعلمها بالدين والدنيا وأهل بيته الميامين الأطهار وأصحابه المنتجبين الأخيار الذين كانوا زبدة وخيرة عصرهم وقطعوا أوصالهم وسحقوا بحوافر خيلوهم أجسادهم الطاهرة وسلخوا الحقيقة ولم يسلم من فجائعهم وقتلهم وحقدهم وقساوتهم حتى ذلك الطفل الرضيع الذي لا يبلغ من العمر ستة أشهر، اولئك الذين خرجوا على خليفة زمانهم وعصوا أمره رغم أنهم انتخبوه وألحوا عليه لتولي أمرهم والحكم بهم وهو القائل فيهم (ع): "دنياكم هذه لا تساوي عندي عفطة عنز"؛ فاحرقوا خيام أهل بيته وسلبوهم وساقوهم أسارى في البلاد الاسلامية من منزل الى منزل.. من كربلاء الدم حتى شام الطاغية الفاسق الفاجر الذي وصفه سبط الرسول (ص) وروحه التي بين جنبيه الامام الحسين مخاطبا والي المدينة آنذاك الوليد بن عتبة بن ابي سفيان.." يزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق ومثلي لا يبايع مثله..." .
اليوم وبعد مضي نحو 14 قرناً تتكرر المأساة وتعود قيادة الشعوب الاسلامية لمن نصب نفسه على قيادتها دون اختيار أو انتخاب من قبل الأمة التي تشدقوا برأيها في بداية الفتنة فيما اليوم لم ولن يعيروها أدنى اهتمام مستبدين برأيهم باعتبارهم أصحاب القرار والقوة والمال والحكم والسطوة جلادون فراعنة يعيدون صورة عصور الجاهلية الظلماء في ظل غياب أسود العرين إما شهداء أو معتقلين مقيدين بالسلاسل قابعين في سجون وغياهب ظلمات أحفاد أمية وهند آكلة الأكباد، ونرى الفأر ينصب نفسه ملكاً وأميراً وولياً للأمر وخليفة يفتك بالأجساد ويزهق الأرواح وينتهك الأعراض ويكم الأفواه ويلطم الخدود وتُزرق وتُسود متون الحرائر والمجاهدين تحت ضربات أسياط الطغاة والجلادين المارقين وتساق النساء سبايا تباع في أسواق النخاسة بابسخ الأثمان ويفعلون الزنى والمحرمات بأعراض الناس ونواميسهم تحت يافطة "جهاد النكاح" استناداً لفتاوى وعاظ سلاطين البترودولار الخليجي أولئك الذين لا مفر لهم مما يقترفون أبشع وأفجع وأبطش أنواع الاجرام والقسوة ما يندى له جبين البشرية والتاريخ متجاهلين أن الدور قادم لهم عن قريب بعون الله تعالى وهو القائل "إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ "-سورة هود - الآية 81 .
فعندما يُنحر الاصلاح وتُسلخ الحقيقة.. تنتهك حرمات الله بكل بساطة وسهولة دون استحياء أو رادع أنساني أو أخلاقي أو ديني وهو ما صوره الامام الحسين بن عليي عليهما السلام في خطبة له باصحابه وجمع من الحجيج بمكة قائلا: "خط الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيد الفتاة وما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسـف وخير لي مصرع أنا لاقيه كأني بأوصالي تقطعها عـسلان الفلوات بين النواويـس وكربلاء".
وأضاف الامام الحسين عليه السلام في كلامه وهو يقف عند القبر الطاهر لجده رسول الله (ص) ووالدته الشهيدة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام قبل خروجه نحو مكة ليتوجه منها نحو الكوفة "يا أماه وأنا والله أعلم ذلك وأني مقتول لا محالة وليس لي من هذا بدٌّ، وإني والله لأعرف اليوم الذي أقتل فيه، وأعرف من يقتلني وأعرف البقعة التي أدفن فيها، وإني أعرف من يقتل من أهل بيتي وقرابتي وشيعــتي وإن أردت يا أماه أريك حفرتي ومضجعي"، موضحاً بذلك عزمه وارادته في مواصلة مسيرة ثورته الالهية الاصلاحية ثورة العز والإباء والوفاء والصدق والحقيقة والصمود والجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى بكل ما لهذه الكلمات من معانٍ؛ وهو ما عانه ويعانيه أهل بيت النبوة والامامة وشيعتهم ومحبيهم وأنصارهم على طول التاريخ ويفجعون بحروب تكفيرية ارهابية تسيل من دمائهم الزكية الانهار لعل ذلك يشفي غليل أبن آكلة الأكباد صاحبة الراية الحمراء الذي يحكم أحفاده غالبية البلدان الاسلامية في عصرنا الحاضر ويدعمون الارهاب والارهابيين بكل ما لديهم من وسيلة اعلامية ومادية وتسليحية وأمنية ولوجستية لتشوية صورة الاسلام المحمدي دين المحبة والأخاء والعدل والمساواة فنرى الاجساد مقطعة في شوراع البلاد والدماء منتشرة على البلاط وجدران المنازل ويزيدو العصر يكبرون ويهلهلون فرحاً وانتصاراً لهبلهم ولاتهم والعزا .