المدينة المقدسة وسياسة الأمر الواقع
علي بدوان
تشهد مدينة القدس المحتلة أحداثاً جساماً، حيث تمر المدينة المقدسة في فلسطين بظروف استثنائية جداً. فعمليات التهويد ومصادرة الأرض، والإطباق على المدينة من كافة جوانبها، وتهويد الأحياء العربية الإسلامية والمسيحية داخل حدودها الإدارية وحتى خارج حدودها، بات أمراً مفروضاً بفعل الوقائع المادية الملموسة التي تصنعها كل يوم أدوات الاحتلال "الإسرائيلي” ومجموعات المستوطنين الصهاينة، التي لم توفر حتى محيط وأسفل المسجد الأقصى وقبة الصخرة، حيث تشير العديد من المعلومات المؤكدة أن الحفريات أسفل ومحيط المسجد الأقصى قد باتت تهدد كامل بنيان هذا الصرح الإسلامي والروحي المقدس لعموم المؤمنين في العالم كله. فضلاً عن قيام جرافات الاحتلال بشكل شبه يومي بهدم المنازل العربية.
والخطير الآن بكل ما يجري في مدينة القدس المحتلة من اقتحامات يومية للمستوطنين لباحات المسجد الأقصى بحراسة شرطة الاحتلال ومنع المقدسيين من الصلاة في "الأقصى”، اعتزام الكنيست "الإسرائيلي” طرح مشروع قانون تقسيم المسجد الأقصى، زمنياً ومكانياً، للتصويت الشهر المقبل، في خطوة تصعيدية جديدة، لا تقل خطورة عن الأفكار التي تم طرحها "إسرائيلياً” في المفاوضات التي جرت خلال السنوات الماضية مع الطرف الرسمي الفلسطيني في سياق عملية التسوية الغارقة في الأوحال والغائبة في سباتٍ عميق.
إن هدم منازل عدد من المقدسيين في بلدة الطور المجاورة لأحياء المدينة المقدسة مؤخراً، والاستعداد لطرح مشروع تقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً، يُعد عدوانا "إسرائيليا” جديدا واعتداء سافرا على حرية المسلمين والمؤمنين عامة في العبادة وعلى عروبة مدينة القدس ككل.
كانت مفاوضات (كامب ديفيد) الثانية في واشنطن صيف العام 2000، بين الوفد الفلسطيني برئاسة الرئيس الراحل ياسر عرفات ووفد دولة الاحتلال بقيادة الجنرال (إيهود باراك) رئيس الوزراء في حينها، قد انهارت بشكل كامل، حين دعت الورقة الأميركية التي تم تقديمها سنتذاك من قبل الرئيس الأميركي الأسبق وليام حيفرسون كلينتون، والتي دعت لتقسيم المسجد وتقسيم الصلاة فيه.. وعلى إثر الموقف إياه اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الكبرى الثانية نهاية يوليو 2000، والتي هزت العالم، وأعادت وضع الأمور على سكتها الحقيقية.
إن المبادرة "الإسرائيلية” المطروحة حالياً في دواخل الكنيست "الإسرائيلي” باتجاه إقرار مشروع تقسيم الصلاة في المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً، وطرحه على جدول أعمال الكنيست (البرلمان) سيؤجج عملية الصراع في المنطقة ككل، وسيهيل التراب على ما تبقى من جهود تبذلها بعض الأطراف لإعادة إحياء العملية السياسية التسوية المعطلة منذ وقت كبير، وقد يشعل المنطقة برمتها.
ومن الواضح أن حكومة اليمين "الإسرائيلي” بقيادة بنيامين نتانياهو تستغل انشغال العالم بالصراعات الداخلية وتشكيل التحالف الأميركي الدولي الإقليمي الجديد وموضوعة تنظيم (داعش)، لمواصلة جرائمها بحق أبناء الشعب الفلسطيني وفرض قوانين عنصرية وتهويدية بحق المقدسات وبحق مدينة القدس التي تعيش لحظات حاسمة بين التهويد وبين المحافظة على عروبتها وإسلاميتها ومسيحيتها.
إن تصدي أبناء مدينة القدس لسياسات الاستيطان والتهويد وهدم واحتلال منازل المقدسيين وعربدة المستوطنين وفرض قوانين عنصرية ومنع المقدسيين من الوصول للمسجد الأقصى وصمودهم في وجه قوات الاحتلال وتحويلهم شوارع القدس إلى ساحات اشتباك وصدام، يؤكد من جديد على الروح الوطنية العالية المختزن لدى عموم أبناء الشعب الفلسطيني للدفاع عن أرضه ومقدساته. لكن تلك الروح الوطنية العالية والجاهزية المتقدمة تحتاج لإسناد حقيقي عربي وإسلامي ومن جميع قوى الديمقراطية والعدالة والسلام في العالم من أجل مناصرة الشعب الفلسطيني، وتوفير الروافع الضرورية لاستمرار صموده، ولإحداث نقلات نوعية في مساره الكفاحي في سياق المعركة الوجودية التي يخوضها في وجه الاحتلال ومجموعات المستوطنين القادمين من أصقاع المعمورة للاستيطان على أرض فلسطين وعلى حساب أصحابها الشرعيين.
وهنا من المهم، التعاطي العربي والفلسطيني بآلية جديدة مع ملف القدس، ووضع إستراتيجية خاصة للمدينة بما فيها توفير مستلزمات صمود أبناء القدس وعموم فلسطينيي الداخل المحتل عام 1967 لمشاريع الاستيطان والتهويد.