متاهة الحرب والإعمار
د. رحيل محمد غرايبة
سياسة الحرب والإعمار لعبة الدول الكبرى، وفصلاً من مسرحية إدارة المجتمع الدولي وأصبحت لعبة مكشوفة ومكرورة، يتم اللجوء إليها للإسهام في حل الأزمات السياسية التي يعاني منها أصحاب السلطة أو الائتلاف الحاكم، أو من أجل إحداث انفراجات جديدة في مسارب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تلقي بظلالها على اقتصاديات الدول الكبرى.
لذلك نجد هذه الدول المأزومة تبحث عن طرف ضعيف ومناسب تشن عليه حرباً مفتعلة، تؤدي إلى تشغيل مصانع السلاح وشركات إنتاج الدمار، وتشبع نهم المتعهدين والمقاولين في مجال الاستثمار الحديث العابر للقارات، وسماسرة النفط العالمي، بالإضافة إلى ما يمتزج به الوضع الدولي من تخلخل وتغيرات وإعادة تموضع وتشكل بيئة سياسية جديدة، تسمح بالعبث في مكونات المجتمعات المترهلة، وتصنع الاختراقات من أجل تسهيل عمليات إعادة الفك والتركيب للدول الفاشلة والشعوب المنهكة والتجمعات البشرية الضائعة التي تعاني من الفرقة والتشتت وتفتقر إلى أدنى مقومات القوة للدفاع عن النفس، وتفتقد إلى إمكانية مواجهة الغزو الخارجي.
ثم تكتمل فصول المسرحية عندما تضع الحرب أوزارها، فتجد أن الدولة التي ارتكبت وزر الحرب تشرع في طرح مشروع الإعمار لما تم تدميره في الحرب، وتبدأ معركة جديدة ناعمة ولكنها أكثر أثراً وفاعلية في سلب المقدرات والاستيلاء على ثروات الشعب المنكوب مرتين؛ مرة بقتل الإنسان وتدمير المجتمع والدولة، ومرة أخرى في الاستباحة طويلة الأمد للارض والعرض؛ عبر مسلسل الإعمار المحتكر حصرا لشركات الدولة المعتدية، مع توزيع بعض الفتات على الدول الأخرى المشاركة والمتحالفة معها، بقدر مشاركتها وإسهامها الفعلي في الحرب.
عندما شنت الولايات حربها على العراق في بداية القرن، ودمرت كل مقومات الدولة العراقية ولم يبق حجر على حجر، كل ذلك كان مقدمة لمعركة إعادة إعمار العراق حكراً على شركاتها الكبرى بنسبة تزيد عن (90%) وتفضلت على بعض حلفائها فيما تبقى، وكل ذلك طبعاً من نفط العراق، ومقدرات الشعب العراقي وثرواته المختلفة ، وحدث ذلك بصورة مقاربة للحرب على غزة، فبعد أن شنت "إسرائيل” حربها على قطاع غزة، حيث أقدمت على إحداث تدمير هائل بالبنية التحتية للقطاع، وبعد توقف الحرب بدأت فصول معركة إعادة إعمار القطاع المدمر، عبر مفاوضات قائمة، تقول أخبارها إن "الإسرائيليين” يشترطون أن يكون الإعمار من خلالها وتحت وصايتها بالتعاون مع السلطة ،وبعض الأطراف العربية الأخرى المحددة من جهتها، وتحوز على رضاها، وتقول الأخبار أيضاً أن "إسرائيل” تشترط أن تستأثر شركاتها بما لا يقل عن (65%) من تكلفة الإعمار التي سيتبرع بها المتبرعون من الدول العربية والدول الصديقة للشعب الفلسطيني.
ينبغي ملاحظة أن هذه الدول التي تشن هذه الاعتداءات الكبرى التي تسمى حروباً، تعمد إلى أخذ كلفة هذه الحرب من الشعب والدولة التي تم الاعتداء عليها، حيث يتم تقدير ثمن كل طلقة وصاروخ تم إطلاقه في عمليات القتل، ويتم تقدير كلفة النقل والطاقة والوقود، وكلفة الخبراء والجنود بشكل مضاعف، وكلفة الاستعانة بالشركات الأمنية، والجواسيس والعملاء والمترجمين، ويشترك في دفع الكلفة العرب أنفسهم والدول النفطية العربية، وينبغي كذلك ملاحظة أنهم يفرضون وصايتهم على عملية الإعمار والاستئثار بحصة الأسد في هذا الريع لشركاتها، ولذلك نحن نموّل الحرب ونموّل الإعمار، وأصبحنا نعيش في متاهة الحرب والإعمار، نخرج من حرب إلى حرب، ومن معركة إعمار إلى معركة أخرى مشابهة، والذي يشن الحرب يحتفظ بحق الاستئثار بثمرات المغامرة، فبدلاً من معاقبة المعتدي ومن كان سبباً في التدمير والمعاناة، يجري مكافأته وتعويض خسائره بشكل مضاعف، وأصبحت الحرب طريقاً للكسب وفكاً "للزنقات” وحلاً للأزمات.
التطوير الملحوظ الذي طرأ مؤخرا على الحرب الجارية في العالم العربي الآن: أن القاتل والمقتول عرب ومسلمون، وتمويل كل الأطراف المتقاتلة من خزائن العرب، في ظل امكانية تحقيق الأهداف نفسها والأرباح نفسها، دون تعريض جيوشها وأفرادها لاحتمالات خسائر الحروب، فميدان المعركة أرض العرب، والقاتل عربي، والمقتول عربي، والنفط عربي، والمال عربي، والعقل أجنبي، والإدارة أجنبية.