قوس الأزمات والسياسات الأمريكية المتوقعة
إيهاب شوقي
بالنظر لخريطة الصراعات في العالم، فإن قوساً من الحروب والأزمات يتطابق مع ما ذكره بريجنسكي وما انبثق عنه مشروعه مع برنارد لويس لتفتيت العالم الاسلامي وتغيير خرائط المنطقة.
ولعل جوهر فكرة بريجنسكي هو أن هذه المنطقة الحيوية والغنية بكنوز الطاقة لا بد من أن تكون سيفاً مسلطاً على أعداء أمريكا، وتركز المشروع في بداياته على الاتحاد السوفياتي وبقي القوس مفتوحاً ليشمل كل الدول التي لا تمارس التبعية والانحناء للأمريكي.
ولعل الفكرة الرئيسية في المخطط الذي طوره برنارد لويس، هي أن تكون الثروات تحت سيطرة فئة محدودة أو جماعة تكفيرية أو تنظيم عرقي، لا تحت سيطرة دولة حديثة ذات جيش ولها عقيدة وطنية ومصالح جيو استراتيجية خاصة. ولعل سيطرة "الدواعش" على منابع النفط ومناطق الكنوز الاثرية في سوريا والعراق وليبيا، تضفي وجاهة على تفعيل هذه المؤامرة الكبرى، كما أن صفقة أميركا الأخيرة مع "داعش" ونقل الذهب الذي كان بحوزة التنظيم لأمريكا يشكل مصداقاً كبيراً.
المؤامرة هنا ليست بالمعنى الجدلي بين أنصار نظرية المؤامرة والآخرين الذين لا يؤمنون بها، لأن في هذه الحالة تبقى الاحتمالات مفتوحة وتنتظر الأحداث لتوضح صحة المؤامرة من عدمها، ولكننا هنا أمام خطة أقرها الكونغرس بشكل مستقبلي، وبالتالي فإننا أمام مؤامرة عملية وليست نظرية.
عام 1980م وأثناء الحرب العراقية الإيرانية، صرح مستشار الأمن القومي الأمريكي "بريجنسكي" بقوله: "إن المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتحدة من الآن هي كيف يمكن تنشيط حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الخليجية الأولى التي حدثت بين العراق وإيران تستطيع أمريكا من خلالها تصحيح حدود "سايكس- بيكو"".
ووفقا للتقارير، عقب إطلاق هذا التصريح كلفت وزارة الحرب الامريكية "البنتاغون" المؤرخ الصهيو امريكي "برنارد لويس" بوضع تفاصيل مشروعه الشهير الخاص بتفكيك الوحدة الدستورية لمجموعة الدول العربية والإسلامية جميعًا كلا على حدة، ومنها العراق وسوريا ولبنان ومصر والسودان وإيران وتركيا وأفغانستان وباكستان والسعودية ودول الخليج (الفارسي) ودول الشمال الإفريقي.. إلخ، وتفتيت كل منها إلى مجموعة من الكانتونات والدويلات العرقية والدينية والمذهبية والطائفية، وقد قام بصياغة مشروعه مرفقا بمجموعة من الخرائط المرسومة تحت إشرافه تشمل جميع الدول العربية والإسلامية المرشحة للتفتيت بوحي من مضمون تصريح "بريجنسكي".
وفي عام 1983م وافق الكونغرس الأمريكي بالإجماع في جلسة سرية على مشروع الدكتور "برنارد لويس"، وبذلك تمَّ تقنين المشروع واعتماده وإدراجه في ملفات السياسة الأمريكية الإستراتيجية لسنوات مقبلة.
وقد جاءت السنوات (المقبلة) ولا زلنا نعاصرها، بداية مما اصطلح عليه بـ(الربيع العربي)، وكانت "داعش" اداة تنفيذية متقدمة تقاطعت خرائط خلافتها مع خرائط برنارد لويس، وتقاطعت خرائط سيطراتها هي واخواتها من التنظيمات التكفيرية مع قوس ازمات "بريجينسكي".
ويبدو أن هذا المشروع من نوعية المشاريع الاستراتيجية العابرة للمراحل والتوازنات، فقد دشن أثناء الحرب الباردة، واستمرت ظلاله بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ومرور العالم بحالة أحادية قطبية بشكل مؤقت، تغيرت به تكتيكات الخطة، ولا زال مستمراً بعد عودة واضحة للحرب الباردة من جديد.
في فترة سيطرة أمريكا بمفردها على العالم، حاولت إحكام السيطرة تحت ذريعة الحرب على الارهاب، وكان نطاق انتشارها في هذا القوس، في العراق وافغانستان، مع اختراق دول آسيا الوسطى، والتلاعب بالصراع الهندي الباكستاني وابتزاز الطرفين، اضافة الى الحرب الضروس على ايران اعلاميا واقتصاديا وسياسيا.
ثم انتقل الأمر لتنفيذ المخطط في قلب الوطن العربي، وكانت العقدة السورية مقدمة لانفراط كامل السلسلة، لولا فطنة الروس ومحور المقاومة والتضحيات الجليلة التي قدمت والتي لم تقم بحماية سوريا فقط، بل حمت من شملتهم الخرائط، أي شكلت حماية لدول (عربية) دعمت العدوان وخططه ومولتها.
ما نشهده اليوم هو تراجع لخرائط التقسيم، ولكنه تراجع تنفيذي تحت وطأة المقاومة وافشالها للمشروع، إلا أن الاستراتيجية لا تزال باقية، والصراع لا يزال ممتدا، كما أن قوس الأزمة لا زالت أصابع الاستخبارات الامريكية تعبث به.
والتوتر الهندي الباكستاني الأخير والذي كان أكبر من تصعيد خطير وأقل من اعلان حرب، وإن حدثت فيه اشتباكات عسكرية، هو مؤشر على تصعيد مفتعل ومتعمد يريد لهذه المنطقة أن لا تستقر، وربما هذه المرة يشمل مفهوم العدو لامريكا وافداً جديداً غير الروس، وهو الصين والتي تدشن طريق الحرير الذي تعد باكستان ضلعاً رئيسياً فيه، وهو ما يزعج أمريكا في اطار حربها التجارية الوجودية مع الصين. وهنا يأتي دور المنظمات التكفيرية، لتؤدي دورها المعهود في خدمة الاستراتيجيات الامريكية، لتقوم بعمليات نوعية في ايران والهند وتشعل القوس وتجعله مأزوماً وطارداً للاستقرار والاستثمار وفاقداً لأهلية أن يكون ممراً تجارياً، طالما كانت أمريكا غير راضية عن ذلك.
سواء تورطت المخابرات الباكستانية مع المخابرات الأمريكية والتكفيريين، أو تلقى التكفيريون أوامرهم بشكل مباشر من أمريكا، او كانت تصرفات فردية، فالمحصلة واحدة، هي محصلة عقود من التآمر الاستخباراتي والتكفيري لخدمة مصالح امريكا، ولو تضررت أطراف التآمر، فهي ارتدادات وفواتير واجبة الدفع.
والخلاصة هنا أننا أمام أحداث متوقعة في اطار هذه الخطط متعثرة التنفيذ وممتدة النوايا، يمكن أن نتوقع منها ما يلي:
1- من غير المتوقع أن ترضخ أمريكا لأي ضغوط أخلاقية أو قانونية تشكل حرجاً دولياً، في ملفات لها علاقة بالديمقراطية وحقوق الانسان أو جرائم الحرب، طالما كانت النتيجة تخدم الصالح الامريكي، ولطالما كشفت وثائق امريكية قديمة وحديثة أن أمريكا تتبع سياسة توازن المصالح مهما كان التناقض مع ادعاءاتها الحقوقية، مثل ما كشف عن تغاضيها عن ادانة باكستان عقب مجازر بنغلادش اثناء اعلانها في أوائل السبعينات، ناهيك عن سجل تواطئها مع العدو الصهيوني، ومؤخرا مع الجرائم السعودية.
2- ليس مستبعداً أن تقوم أمريكا بأي عمليات سرية استفزازية في أي دولة لاستفزاز أعدائها ونصب الفخاخ لهم. ومثلما اعترف كيسنجر أن التدخل الامريكي في افغانستان كان سابقا للغزو السوفيتي على عكس ما أشيع انه كان ردا، فإن امريكا قد تحاول نصب فخاخ للروس أو ايران او الصين.
3- مثلما تغاضت أمريكا عن المشروع النووي الباكستاني بسبب دور باكستان في حشد التنظيمات (الاسلامية) وادخالها افغانستان لمحاربة السوفيت، يمكنها أن تتغاضى عن مشروع نووي سعودي، غير عابئة بأية مخاطر.
4- سياسات الاحتواء قد تكون البطل الرئيسي للسياسات اتساقا مع عودة جلية للحرب الباردة، وهو ما نشهده في امريكا اللاتينية، وقد نراه في آسيا الوسطى وشبه القارة الهندية.
5- الابقاء على النزاعات دون تسويات لاستنفاد جميع الأطراف المتصارعة، وهو ربما سر افشال المفاوضات مع كوريا الشمالية لعدم ايجاد فرصة لتوافق الكوريتين بما يهدد النفوذ الامريكي أو يعطي نفوذاً مضافاً للصين، وهو ربما ما سيطيل أمد الحرب في سوريا، وربما تستحدث مناطق صراع جديدة.
ربما تراجعت قوة أمريكا ولكنه تراجع عن القطبية الأحادية وليس تراجعاً لقوة عظمى تستدعي سياسات الحرب الباردة وتكتسب صمودا من أتباع بائسين لا زالوا يراهنون عليها ويعطونها قبلة الحياة الامبراطورية.