أبعاد العدوان الأمريكي على فنزويلا
د . زياد حافظ
سألني صديق لماذا كلّ هذه الضجة على فنزويلا؟ فهذه ليست المرة الأولى ولا الأخيرة يتدخل الأميركيون في شؤون دولة في أميركا اللاتينية. فما الجديد؟ الجديد هنا التغييرات الجوهرية في موازين القوة.
فالولايات المتحدة اليوم غير الولايات المتحدة في الخمسينات والستينات وحتى السبعينات من القرن الماضي عندما كانت تتدخل متى شاءت وكيف شاءت.
فمن جهة هناك تراجع ملحوظ في قدراتها السياسة والعسكرية وحتى الاقتصادية، ومن جهة أخرى هناك صعود القوى الذاتية لعدد من الدول في أميركا اللاتينية.
والعبر الأساسية هي أنّ في ذروة التسلّط الأميركي لم تستطع منع قيام الثورة في كوبا ولم تستطع قلب النظام الثوري بعد حصار امتدّ على أكثر من ستة عقود.
وحتى في نيكاراغوا، فالتراجع الظرفي للقوات السندينية محته عودتهم إلى السلطة بطريقة ديمقراطية. وبوليفيا مثال آخر على صعود وصمود القوى الذاتية الرافضة للهيمنة الأميركية.
ومنذ انتخاب هوغو شافيز سنة 1998 والولايات المتحدة تفرض الحصار على ذلك البلد كما فرضت الحصار على كوبا وعلى الجمهورية الإسلامية في إيران.
فالعقوبات هو سلاح العاجز عن تحقيق أيّ تغيير في الميدان. واليوم بعد سلسلة الهزائم التي مُنيت بها الولايات المتحدة في كلّ من الشرق الأوسط وحتى وسط وشرق آسيا، وبعد تصدّع العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ، كان لا بدّ من معركة سريعة وحاسمة تعيد الاعتبار للولايات المتحدة وللتأكيد على أنّ أميركا اللاتينية حديقة خلفية للولايات المتحدة دون شريك لها.
فقد لاحظت الولايات المتحدة تنامي النفوذ الصيني والروسي وإلى حدّ ما الإيراني في تلك القارة فكان لا بدّ لها من عمل يوقف تآكل النفوذ الأميركي وحتى أفوله في القارة الجنوبية.
مع كلّ تلك الاعتبارات فهناك حقائق لا بدّ من الإضاءة عليها. فكما كان النفط في الشرق الأوسط أحد العناصر الأساسية للسياسة الخارجية الأميركية في المنطقة فإنّ النفط الموجود على أبواب الولايات المتحدة والمتمثل بالاحتياطات الهائلة النفطية لدى الجمهورية البوليفارية الفنزويلية هو الدافع الأول إنْ لم نقل الأهمّ في العدوان المفاجئ على ذلك البلد.
ولقد أفصح عن ذلك بكلّ وضوح وبدون مواربة مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون عندما قال إنه يريد أن يكون النفط الفنزويلي تحت سيطرة الشركات النفطية الأميركية الكبرى.
والجدير بالذكر أنّ الاحتياط النفطي الفنزويلي أكبر احتياط في العالم ويقدّر بـ 300 مليار برميل وإنْ كان من النوع النفط الثقيل الذي يستدعي معامل تكرير خاصة به.
وإضافة إلى النفط هناك المعادن الموجودة في جوف الأرض الفنزويلية كالبوكسيت لصناعة الألمنيوم والفحم والذهب والحديد.
وفنزويلا ثالث منتج ومصدّر للفحم في أميركا اللاتينية بعد كلّ من كولومبيا والبرازيل.
أما بالنسبة للذهب فالاحتياط في جوف الأرض يشكل ثاني احتياط في العالم.
فلا عجب أن تثير تلك الثروات أطماع الشركات الأميركية الكبرى.
لكن مع هذه الأطماع في الثروات الفنزويلية هناك سوابق خطيرة جداً من وجهة نظر الولايات المتحدة منها ظاهرة هوغو شافيز ونيكولاس مادورو وهي صعود مواطنين منحدرين من أصول السكان الأصليين لتلك البلاد وليس المستعمرين المستوطنين الاسبان، وصعود الأعراق المختلطة وخاصة المختلطة بين أفارقة ولاتينيين، أيّ جميع أصحاب البشرة السمراء!
ويرافق هؤلاء رئيس بوليفيا ايفو موراليس الذي يُعتبر أول رئيس منتخب من أصول هندية.
فتضافر العنصرية الاسبانية الأصل مع العنصرية الأميركية عامل أساسي في محاربة ظاهرة شافيز ومادورو.
ومع البعد العنصري هناك البعد الاقتصادي الاجتماعي. فقبل وصول شافيز إلى الحكم كانت فنزويلا تحكمها أوليغارشية مالية وعقارية، وكان الشعب في معظمه يرزح تحت خط الفقر.
أما اليوم، وبعد أكثر من عقدين من التقدّم الاجتماعي استطاعت الدولة الحدّ من مستوى الفقر عبر تقديم الخدمات الاجتماعية وخاصة الحصول على سكن يليق بكرامة المواطنين الفنزويليين. كما تمّ محو الأمية بنسبة مائة بالمائة في أقلّ من عقدين.
الصحافي الأسترالي جون بيلجر يروي على موقع «كونسوريتوم نيوز» رحلته إلى فنزويلا أيام هوغو شافيز ولقاءاته مع أطياف من الشعب الفنزويلي والتفافهم حوله.
ومادورو يكمل المسيرة ما جعل الغربيين يصفونه بالدكتاتور وهو الرئيس المنتخب شعبياً!
فالشعب الفنزويلي لا ينسى ما قدّمت له الحقبة الشافيزية المستمرة مع نيقولاس مادورو.
هذه ظاهرة خطرة لا تستطيع تحمّلها الولايات المتحدة والأقليات الحاكمة في بعض الدول في أميركا اللاتينية.
لهذه الأسباب انطلقت حملة الأكاذيب بغية شيطنة كلّ من شافيز ومن بعده مادورو. لم تتوقف الولايات المتحدة عن محاولات تغيير النظام بالقوة سواء عبر الدفع بتمرّد الجيش أو عبر محاولات اغتيال، إلا أنها فشلت جميعاً، كما أنها فشلت في جلب الجماهير إلى الانقلاب على مادورو.
هذا لا يعني أنّ الشعب الفنزويلي يتغاضى عن الأخطاء والفساد ولكنه يعرف من هو السبب في الفساد، ومن هو المسؤول عن محاولات تجويعه، ومن يريد إخضاعه للمشيئة الخارجية، ومن ينتهك كرامته. والشيطنة عبر حملات الأكاذيب هدفها زرع فكرة في وعي الرأي العام الغربي بشكل عام والأميركي بشكل خاص أنّ التخلص بالقوة من مادورو «واجب أخلاقي».
يتلاقى هنا المتدخلون الليبراليون وهم ديمقراطيون مع المحافظين الجدد والانجيليين الجدد وهم جمهوريون حول ضرورة التخلص من مادورو.
والإعلام الشركاتي المهيمن في الولايات المتحدة وسائر الدول الغربية يعرض السردية التي تشيطن مادورو ويتجاهل مكاسب الشعب الفنزويلي في حقبة شافيز ومن بعده مادورو.
ومن جملة الأكاذيب التي تروّجها الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية هو «المجاعة» و«النقص في الدواء» بسبب سياسات مادورو.
والحصار المطبق على فنزويلا منذ فترة طويلة يهدف إلى تجويع الشعب الفنزويلي لتبرير ضرورة إرسال بعثات «إنسانية» عبر منظمات غير حكومية مشبوهة لإدخال السلاح والمرتزقة إلى فنزويلا.
لكن الأكاذيب بدأت تنكشف، حيث عدد من المراسلين الأجانب في فنزويلا، ومنهم أميركيون كماكس بلومنتال، أظهروا بالصورة امتلاء المخازن من المواد الغذائية والصيدليات من الدواء.
كما فنّد بلومنتال بالصورة ادّعاءات وزير الخارجية الأميركي بومبيو والشيخ الجمهوري من فلوريدا مارك روبيو بأنّ قوافل «المساعدات الإنسانية» أُحرقت من قبل القوات التابعة لمادورو بينما حقيقة الأمر أنّ عناصر من المعارضة هي التي أحرقت الشاحنات وسبّبت الشغب.
وهذه المعلومات موجودة على موقع روسيا اليوم والمواقع الالكترونية للإعلام الموازي الذي أصبح مرجعا للمعلومات بدلاً من الإعلام الشركاتي المهيمن.
الواضح أنّ هذه الحملة من الأكاذيب أطلقتها زمرة المحافظين الجدد في أروقة الحكم في البيت الأبيض. كلام الرئيس ترامب حول ضرورة التغيير في فنزويلا لا يسمن ولا يغني عن جوع.
وقد تكون في آخر المطاف محاولة لتخدير المحافظين الجدد وإلصاقهم بهزيمة نكراء في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة. هذا احتمال وارد، وقد يعتبره البعض أنه مبالغة بقدرات المناورة للرئيس الأميركي. نذكر هنا أنه استطاع التغلب على جميع منافسيه من أقطاب الحزب الجمهوري فلا يجب نفي الدهاء عنه.
وأحد هؤلاء هو شيخ ولاية فلوريدا ماركو روبيو الذي يتصدّر الحملة على فنزويلا في مجلس الشيوخ. فقد نشر على صفحته التغريدية صورة للرئيس الليبي المغدور معمر القذافي قبل سقوطه ، وبعد إشارة واضحة إلى مصير الرئيس الفنزويلي نيقولاس مادورو فيما لم يتنحّ عن الحكم.
حسابات الحقل الوهمية عند النخب الحاكمة في الولايات المتحدة وبعض دول أميركا اللاتينية لم تكن متطابقة مع حسابات الواقع الميداني في فنزويلا، ما يذكرنا بما حصل في سورية.
وها هو وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو يكرّر اللازمة أنّ «أيام الرئيس الفنزويلي معدودة»! قالها قبله كلّ من أوباما وهيلاري كلينتون وجون كيري وجون ماكين ودافيد كاميرون في المملكة المتحدة ونيقولا ساركوزي الفرنسي ووزير خارجيته ألان جوبيه ومن بعده فرنسوا هولاند ووزير خارجيته لوران فابيوس بحق الرئيس بشار الأسد، وإذ رحلوا جميعاً وبقي الرئيس الأسد!
ومقولة بومبيو تذكرنا بمقولة الجنرال جياب الذي هزم الأميركيين في فيتنام «إنّ الأميركيين لا يتعلّمون من أخطائهم فهم تلاميذ غير نجباء»!
المشروع الانقلابي الذي ينكشف أمامنا يدلّ على مدى الارتجال داخل الإدارة الأميركية. فالرداءة في المعرفة تواكب رداءة في التخطيط، إضافة إلى ضياع بوصلة الأخلاق والتهذيب.
كان الرهان على إجراء انقلاب سريع من قبل القوات المسلحة الفنزويلية رغم المحاولات الفاشلة السابقة ورغم محاولات اغتيال الرئيس الفنزويلي.
كما أنّ سوء التقدير عند هذه النخب في ما يتعلق بموقف الشعب الفنزويلي لا يقلّ عن سوء التقدير في ما يتعلق بردود الفعل عند دول الجوار وعلى الصعيد الدولي.
فبعد خطة «ألف» لتغيير النظام عبر الانقلاب العسكري تبيّن أنّ خطة «باء» في عزل فنزويلا فشلت أيضاً أو لم تعط الدفع المطلوب.
فمنظمة الدول الأميركية التي مقرّها في العاصمة الأميركية لم تكن في «جيب» الولايات المتحدة عندما أخفقت الأخيرة على حث تلك الدول على مقاطعة حكومة مادورو والاعتراف بمرشح الولايات المتحدة غوايدو.
والآن يعمل على خطة «ج» أيّ خلق «أزمة إنسانية» في فنزويلا لتبرير تدخل عسكري. ولكن مقوّمات التدخل العسكري غير متوفرة رغم «تسريب» جون بولتون المستشار للأمن القومي في إدارة ترامب حول إمكانية إرسال 5 آلاف جندي إلى كولومبيا تمهيداً لتدخل عسكري في جغرافيا لا تختلف كثيراً عن جغرافيا فيتنام.
ولا تأخذ بعين الاعتبار أنّ الجيش الفنزويلي قوامه 350 ألف جندي مدرّب أحسن التدريب على يد الخبراء الروس والكوبيين والصينيين. كما أنّ الشعب الفنزويلي مسلح وقد يخوض حرباً شعبية ضدّ الحملة العسكرية الأميركية.
الصفعة ربما القاضية أتت من البرازيل حيث الرهان على الرئيس الجديد جوان بولسونارو الذي يجاهر بتطرفه اليميني فوجئ بموقف حاسم من القوات المسلحة البرازيلية على لسان نائب الرئيس الجديد الذي يمثل المؤسسة العسكرية.
أضف إلى كلّ ذلك فشل الحملات التعبوية لمن نصّب نفسه رئيساً لفنزويلا خوان غوايدو. والآن وفقاً لآخر المعلومات هرب غوايدو إلى كولومبيا ليلتقي بنائب الرئيس الأميركي مايك بنس غير أنّ عودته لفنزويلا قد تكون صعبة إنْ لم تكن مستحيلة.
فخروجه من فنزويلا كان غير قانوني ، فأصبح تحت طائلة القانون ويُعتقل إذا عاد. وما زلنا في انتظار ما تبقى من الخطط الأبجدية لإنجاح المشروع الانقلابي الأميركي في فنزويلا.