النظام العالمي الجديد في المخاض الأخير
د. وفيق إبراهيم
محاولات الأميركيين لتحصين سيطرتهم الأحادية على القرار الدولي تكاد تلفظ أنفاسها الأخيرة... فبعد 18 سنة على احتلالهم أفغانستان، يحاولون اليوم الانسحاب منها بمفاوضات مع منظمة طالبان ذات النسب القاعدي والتي كانوا يقاتلونها.. ولا يجدون في العراق حليفاً داخلياً قوياً يتكئون عليه، وذلك بعد 15 سنة من سيطرتهم على بلاد ما بين النهرين. حتى أنّهم لم يستقرّوا في أيّ من البلدان التي نظموا فيها حروباً أهلية. فها هي ليبيا في عنف دائم وتونس غير مستقرّة ومصر تحت رحمة الإرهاب الداعشي والصومال متفجّر واليمن في حرب مفتوحة، يحميه مقاوموه الشجعان والسودان مضطرب ...
لذلك يسارع الأميركيون إلى تنفيذ ثلاث خطوات كبيرة أرادوا منها «إرجاء» سقوط سيطرتهم الأحادية إلى مرحلة قد يتمكّنون فيها من ترميم الخسائر والاستقرار لمدة طويلة في الزعامة المطلقة للعالم.. وبذلك يرجئون صعوداً روسياً، يفعل المستحيل لبناء نظام تعدّدي لإدارة القرار الدولي. وهو على وشك تحقيق مشروعه «البوتيني».
هذا ما دفعهم إلى تنفيذ ثلاث خطوات متتالية، إلى جانب دعمهم جولة قام بها رجلهم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الهند وباكستان لأهداف ترتبط بنيوياً بمحاولات إنقاذ الإمبراطورية الأميركية. نفّذوا أولى خطواتهم في شرق الفرات والشمال، مؤسّسين فيهما لساحات قتال مفتوحة يختلط فيها التركي بالكردي والقوات الأوروبية، والإيراني والروسي والدولة السورية بإرهاب تكفيري من أصول داعشي وقاعدي وإخواني.. فتبدو أهداف هذه الخطة وكأنها تريد ضرب «الكلّ بالكلّ» في تراجيديا إغريقية يموت فيها الجميع.. ولا يبقى بالطبع إلا «البطل الأميركي».
أما الخطوة الثانية فبدأت مع التسلل السري للرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى إحدى قواعد جيشه في العراق، حيث أعلن نيته بتحويل العراق قاعدة أميركية كبرى لإدارة سياسات كامل الشرق الأوسط.. وبالقوة العسكرية طبعاً كوسيلة حصرية للإقناع.
بيد أنّ ردود فعل القوى السياسية العراقية أحبطته.. هناك قوى سياسية ضعيفة في أرض السواد، ترتبط بالسعودية والإمارات وتركيا، نوّهت بضرورة استمرار الوجود الأميركي في بلاد ما بين النهرين.. لكن الدولة والأطراف السياسية الوازنة فيه، أكدت أنّ هناك معاهدات تنظم هذا الوجود الأميركي الذي لا يجب أن يزيد عن الأدوار الاستشارية وله مدة محددة. والحشد الشعبي من جهته أكد أنّ الاتفاقيات المعقودة مع الأميركيين لا تلحظ وجود قواعد بل مستشارين لهم أعمال محدّدة وجانبية وضمن القوات العسكرية العراقية، متعهّداً بمهاجمة أيّ قواعد أميركية إضافية لا علاقة لها بالاتفاق.
وهكذا جرى إجهاض الخطوة الثانية.
لجهة الحركة الثالثة فتجسّدت بإسراع أميركي لوضع يد واشنطن على 18 في المئة من احتياطي النفط العالمي الموجود في فنزويلا المناوئة سياسياً للأميركيين، وفي جوار جغرافي قريب جداً لهم.. وإسقاط فنزويلا له مهمة اقتصادية كبيرة، لكنه يتمتع أيضاً بأبعاد استراتيجية ترتبط بوقف النفوذ الروسي المتصاعد في أميركا الجنوبية، خصوصاً في فنزويلا وكوستاريكا والمكسيك وكوبا وبوليفيا إلى جانب علاقات اقتصادية مع بلدان أخرى.
وكان الروس أرسلوا أحدث طائراتهم الخارقة التي تسمّى «البجعات البيضاء» إلى العاصمة الفنزويلية كراكاس قبل أسبوعين فقط من بدء الخطة الأميركية لبناء معارضات فنزويلية داخلية تُسقط حكم الرئيس مادورو داخلياً أو بواسطة تدخّل أميركي.
ويبدو أنّ تحلق الداخل الفنزويلي حول نظام مادورو والتهديد الروسي بالتدخّل فرضا على الأميركيين سياسة تعقل نسبي باللجوء إلى استخدام الداخل الفنزويلي والدول اللاتينية ومدّها بالسلاح والمال، مع محاولات الدفع باتجاه تنظيم حرب أهلية داخلية.
هناك جانب آخر أيضاً.. وبطله محمد بن سلمان الذي أهدى باكستان عقوداً بعشرين مليار دولار لتواصل التغاضي عن تسلل إرهابيين من البلوتش من أراضيها إلى إيران.
هذا إلى جانب تعاقده مع الهند بصفقات تزيد عن مئة مليار دولار وتعهّده بدعمها نفطياً في كلّ المراحل.. وكان بهذا الوعد، يريد من الهند الالتزام بسياسات المقاطعة والحصار الأميركي المنصوب حول إيران. علماً أنّ الهند هي واحدة من بلدان قليلة خرقت سياسات الحظر الأميركية ولا تزال تشتري نفطاً من إيران. فجاء قاتل الخاشقجي يفرض عليها البديل في خطوة يعتقد أنها تؤدّي إلى اتساع رقعة الانهيار الاقتصادي وبالتالي السياسي في الجمهورية الإسلامية. فيخدم بذلك صمود الإمبراطورية الأميركية، التي تعتبر أنّ سقوط هذه الجمهورية يُعيد إليها نفوذها في العراق واليمن وسورية ولبنان وأفغانستان.
هذه المحاولات الأميركية هي حقيقة متواصلة، لكن نتائجها تميل إلى إنتاج خيبات أمل متلاحقة من سورية إلى فنزويلا.
لكن الردّ الأقسى جاء في الخطاب الأخير للرئيس الروسي بوتين الذي بدأ كبلاغ بتكريس الصعود الروسي إلى نظام منتج للقرار الدولي يقوم على ثنائية أميركية ـ روسية.
كشف بوتين بوضوح أنّ بلاده تؤمن بما تقوله العلوم السياسية حول دور موازين القوى بإنتاج التفاهمات أو بالذهاب إلى الحروب للإقناع عارضاً لأنواع جديدة من أسلحة خارقة، تخترق القارات والمحيطات والبحار من دون وجود ما يصدُّها. ومعظمها من فئة أسلحة الدمار الشامل أو الدقيق. مؤكداً أنّ الأميركيين لا يمتلكون ما يوازيها. هذا الكلام الحربي، يدخل في إطار الإعلان عن دخول روسيا وبقوتها العسكرية، النظام الدولي الجديد.
ولاستكمال شروط الانتماء إلى هذا النظام، أعلن القيصر عن بدء سياسات إنتاجية تستند على موارد روسية هائلة تشكل نحو 40 في المئة من ثروات العالم في ميادين الطاقة والغلال والتعدين والمياه، إضافة إلى عقل علمي روسي موجود، ويد عاملة متخصّصة ماهرة.. أليست هذه عناصر التطوّر الاقتصادي السريع والممكن علماً أنّ مساحة روسيا تبلغ أقلّ بقليل من ضعفَيْ مساحة الولايات المتحدة وتزيد ثلاثة أضعاف عن مساحة الصين 15 مليون كيلومتر مربع . واللافت أنّ بوتين وبخلاف رؤساء بقية الدول، دعا الروس إلى مزيد من الإنجاب واعداً بتأمين سياسات تؤدّي إلى استقرارهم.
فهل يمكن القول إنّ الثنائية الدولية أصبحت واقعاً؟
لا شك في أنها قيد التبلور النهائي، أما الشروط الأخيرة لتشكلها فتنتظر العجز الأميركي عن تدمير إيران.. ما يؤدّي إلى صعود الحلف الروسي ـ الإيراني بترحيب عالمي ضاق ذرعاً بتسلط الأميركيين المصابين بجنون إبقاء الحروب في كل مكان