الادارة "الترامباوية" تأخذ الاقتصاد الاميركي الى الانتحار
جورج حداد
يعزو بعض المراقبين القرارات المتخبطة والمتهورة والمتناقضة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، الى عدم تمرسه السياسي، وضعف وعدم تجانس فريق العمل المحيط به. لكن هذا التفسير "الشخصاني" لا يعكس الصورة الصحيحة للواقع الأميركي الراهن. فالحقيقة أن أميركا تعيش أزمة اقتصادية مستعصية، ونهج "التشبيح" "الترامباوي" ما هو سوى شكل فاشل من أشكال التعبير عن هذه الأزمة ومحاولة ايجاد حلول لها على حساب خصوم أميركا وأصدقائها على السواء.
في 2008 حينما حلت الأزمة المالية في أميركا بسبب انتفاخ البالون البنكي ـ العقاري، تمكن الرئيس السابق باراك أوباما من الاتفاق مع الكونغرس على رفع سقف الدين العام للدولة الى 22 تريليون دولار، ومن ثم التصريح للفيديرال ريزرف بطباعة كميات هائلة جديدة من الدولارات الورقية بدون تغطية ذهبية، وهو ما أتاح لحكومة أوباما إنقاذ البنوك التي كانت في وضع إفلاسي بمنحها قروضاً دولية طويلة الآجال وبفائدة رمزية بمئات مليارات الدولارات، وهو ما اعتبر "مكافأة" لتلك البنوك التي تسببت بالازمة. وهكذا أمكن حل الأزمة المالية ـ الاقتصادية في أميركا عن طريق ضخ كميات إضافية من الدولارات الورقية في السوق المالية، أي عملياً على حساب الاقتصاد العالمي برمته نظراً للدور المنوط بالدولار بوصفه العملة الدولية الرئيسية. وهكذا تمكن الاقتصاد الأميركي القوي من استيعاب الصدمة ومن ثم تخفيض سقف الدين العام للدولة تدريجياً.
أما الآن، فإن بوادر الأزمة تعود لتطل برأسها، ليس عن طريق المضاربات البنكية المجنونة، بل عن طريق العجز في الميزانية وفي الميزان التجاري الخارجي الأميركيين. وادارة ترامب غير قادرة الآن على اللجوء الى "علاج" طباعة الدولارات الورقية، أولا، بسبب معارضة "الديمقراطيين" المسيطرين على الأكثرية في مجلس النواب في الكونغرس الاميركي، وثانياً، بسبب دقة أوضاع الدولار في السوق المالية الدولية وارتباطه بأسعار النفط، في وقت ليست فيه أميركا في "أوضاع ملائمة" في علاقاتها الدولية مع المنافسين والأصدقاء على السواء.
وتقول وكالة "رويترز" استناداً الى مصادر مالية عليمة إن ادارة ترامب تحتاج الآن الى رقم خيالي هو 1 تريليون دولار لتتمكن من تغطية العجز في الميزانية والميزان التجاري الخارجي. وليس أمامها من سبيل لتوفير هذا المبلغ الهائل إلا عن طريق الحصول على قروض دولة، باصدار سندات خزينة لآجال 3 و10 و30 سنة بفوائد عالية.
وستتولى وزارة المالية مواصلة إصدار سندات الخزينة لأجل تأمين الدين العام للدولة من أجل تغطية العجز في الميزانية وفي الميزان التجاري، وقد بلغت قيمة الاصدارات 1 تريليون دولار سنوياً للسنة الثانية على التوالي من عهد دونالد ترامب. وهذا ما يفسر الأسلوب الانفعالي لترامب في "التشبيح" المالي على الأصدقاء وتشديد العقوبات على المنافسين وتغطية كل ذلك بالمسرحيات السياسية وتصعيد أشكال الحرب الباردة والتهديدات والعنتريات وفي الوقت ذاته، وعلى النقيض من ذلك، اتخاذ قرارات الانسحاب الاميركي من بعض مناطق التوتر العالمي بهدف غير معلن هو "توفير النفقات" ليس الا. خصوصاً وأن "الحضور الاميركي" في تلك المناطق واجه الفشل الذريع، ولم يعد له من نتيجة سوى الإضرار بالاقتصاد الاميركي دون جدوى.
كما يقول كبار سماسرة البورصة إن وزارة المالية تعرض سندات الخزينة لـ 3 و10 و30 سنة للبيع بالمزاد في السوق المالية على دفعات أسبوعية بكميات كبيرة، وتبلغ كل دفعة عشرات مليارات الدولارات. وقد جاء هذا العرض المرتفع لسندات الخزينة في أعقاب تخفيض الضرائب الذي قرره ترامب، وزيادة نفقات الدولة. أحد أسباب زيادة نفقات الدولة هو زيادة تكلفة خدمة الدين العام. وحسب تعبير برايان ادموندز المحلل في مؤسسة Cantor Fitzgerald "اننا نرى كيف ان العجز يزداد انتفاخا".
لقد بلغ عجز الميزانية الاميركية عام 2018، 780 مليار دولار، وتقول لجنة الموازنة في الكونغرس إن العجز سيبلغ 973 ملياراً في 2019 وأكثر من 1 تريليون دولار في 2020. وفي السنوات العشر القادمة سيتوجب على الحكومة الأميركية أن تدفع 7 تريليونات دولار فقط لأجل خدمة الدين العام.
ويحذّر جيفري غوندلاكس الخبير الاقتصادي في مؤسسة DoubleLine Capital LP من أن الاقتصاد الأميركي سيتضرر بشدة بسبب الديون العامة الكبيرة.
وكتبت "رويترز" أن عجز الميزانية في السنة المالية المنتهية في 30 ايلول الماضي بلغ 779 مليار دولار. وهذه أول سنة مالية كاملة في عهد دونالد ترامب. وقيمة هذا العجز هي الأعلى منذ 6 سنوات. وعجز الميزانية في السنة المالية الأولى من عهد ترامب هو أكبر بـ 17% (اي 113 مليار دولار) من السنة المالية التي سبقتها. وقد ازدادت النفقات 3,2% اي 127 مليار دولار، بينما ازدادت المداخيل 0.4% اي 14 مليار دولار. وذلك حسب الأرقام التي قدمتها وزارة المالية. وبلغ عجز الميزانية نسبة 3.9% من الناتج المحلي القائم. ويتوقع الخبراء أن يبلغ العجز نسبة 4.6% من الناتج المحلي القائم في السنة المالية القادمة. كما يتوقعون أن يخرج الدين العام عن السيطرة في السنوات القادمة.
ويقول الملياردير سيت أ. كلارمان إن التوتر الاجتماعي العالمي، ونزول أميركا من مرتبة الزعامة العالمية، وارتفاع مستويات الدين العام للدولة الاميركية هي مؤشرات مقلقة جداً.
إن كل الدلائل تشير الى أن السياسة التخبطية والاستفزازية لادارة ترامب ليست سوى تعبير عن الأزمة الاقتصادية ـ السياسية العميقة، الداخلية والخارجية، لأميركا. وادارة ترامب لا تفعل سوى دفع الاقتصاد الأميركي للاتجاه بسرعة نحو الانتحار.