البيان الوزاري... والهروب من السياسة "مرجلة"
ناصر قنديل
– من المضحك أن ما يجري تداوله حول التمسك باتفاق الطائف الذي صار دستور لبنان ينحصر بالتجاذب التقليدي حول الصلاحيات بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، أو بتسجيل التنمّر السياسي المتبادل حول هذه الصلاحيات، ويتناسى الجميع أن في الدستور وفي الطائف إطاراً سياسياً محلياً وإقليمياً حاكماً للاستقرار الداخلي سيترتب على غيابه تحوّل الحكومة حكومة تصريف أعمال، ولو كان بيانها الوزاري من مجلدات فسيبقى أقرب لبيانات صحافية لما سيكون عليه عمل الوزارات .– الحكومة ليست مجموعة وزارات يتم تسييرها وفقاً لخطط عمل بل هي مجلس الوزراء مجتمعاً الذي يرسم السياسة العامة للدولة، والبيان الوزاري هو إعلان نيات حول الإطار السياسي لعمل الحكومة، تضاف إليه التفاصيل الخاصة بخطط العمل الوزاري، وبدون الإطار السياسي تصير الحكومة مجلس إدارة شركة كبرى لا مجلساً للوزراء في دولة، ومن المضحك أن يتباهى الوزراء بما يسمّونه سهولة المرور على العناوين السياسية التي يسمّونها عناوين خلافية ويفرحون أنهم اختاروا لها تعابير فضفاضة تفادياً للخلافات ويسمون ذلك إنجازاً. وفي تاريخ الشعوب والدول ومنها، بل في مقدمتها لبنان، تتأسس الأزمات التي تنفجر في ظروف مناسبة إلى حروب أهلية، على التهرب من مناقشة القضايا الخلافية.
– ثلاثة عناوين سياسية حدّدها اتفاق الطائف كإطار سياسي لمشروع الدولة ترك للمجالس النيابية والحكومات المتعاقبة ترجمتها خططاً: العنوان الأول هو تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة من العدو الإسرائيلي، والعنوان الثاني العلاقة المميزة مع سورية، والعنوان الثالث هو السير بالدولة من التنظيم الطائفي إلى التنظيم اللاطائفي لعلاقة الدولة بالمواطن وعلاقة المواطن بالدولة. وكل بيان وزاري يخلو من رسم الكيفية والخطة لمقاربة هذه العناوين الثلاثة خروج عن الدستور وتنكّر لاتفاق الطائف وقبول بحكومة تصريف أعمال، وتنازل سيادي خطير عن مسؤوليات الدولة التي تترك لسواها عملياً رسم السياسات في هذه العناوين، لأن لا فراغ في السياسة، وما لا تملؤه القوى المعنية بخيارات واعية سيملؤه سواها بالوقائع التي يصعب تجاهلها.
– جميع مَن في الحكومة يسلّم بوجود أراض لبنانية تحت الاحتلال ويتجاهل أن مسؤولية الدولة امتلاك خطة للتحرير، وأن الطائف كان سعياً لتبني الدولة لهذه المسؤولية بعد طول غياب ترتبت عليه وقائع أهمها ضعف الدولة وتراجع مكانتها في عيون مواطنيها وعيون الخارج. ولا يستطيع أحد إنكار حقيقة أن الرهان الذي وضع مع صدور القرار 425 عام 1978 وتجدّد بعد التحرير عام 2000 وتجدد مرة ثانية بعد عدوان تموز 2006، على نجاح الأدوات الدبلوماسية في تحرير ما تبقى من الأراضي اللبنانية من الاحتلال يُعيد كل مرة إثبات عقمه، ويضاف إليه اليوم شأن اقتصادي كبير يتصل بثروة لبنان من النفط والغاز، فهل يعقل ألا يمتلك لبنان خطة لمواجهة المخاطر الإسرائيلية، فقط لأن الخطة الوحيدة المتاحة هي الاستثمار على معادلة الشعب والجيش والمقاومة، التي تسبب حساسية لقوى دولية وإقليمية يحرص بعض أطراف الحكومة على مراعاتها، فيصير النص الفضفاض الذي لا يمرّ على التحديات ولا على الخطط، حلاً يتم التباهي باعتماده، والغياب هنا هو له معنى واحد ترك المبادرة بيد «إسرائيل» في البر والبحر والجو، وغداً عندما تبادر «إسرائيل» بالعدوان وتواجه المقاومة عدوانها يخرج بعض من في الحكومة للتنديد بالحلول مكان الدولة في قرار السلم والحرب.
– جميع مَن في الحكومة أيضاً يعلم أن العلاقة المميزة بين لبنان وسورية هي ثمرة موضوعية للعلاقة التي يفرضها التاريخ وتحكمها الجغرافيا، وتعززها المصالح، وقد غيبت خلافاً لنصوص الطائف، في ظروف تورط أطراف لبنانية في الحرب التي شنت على سورية لإسقاطها. وها هي الحرب تشارف على النهاية، والعلاقات الطبيعية مع سورية تتجه لتصير خطاً بيانياً دولياً وإقليمياً، ولبنان في وضعية تتيح له أن يكون في المكانة المميزة في إعادة إعمار سورية، وأن يبني تكاملاً تجارياً يفتح آفاقاً رحبة أمام السلع اللبنانية الزراعية والصناعية، وأن يضع خططاً مشتركة مع سورية تنهي الجزء الأكبر من ضغوط قضية النازحين، والغياب عن رسم خطة لإعادة تثبيت مفاهيم ومرتكزات العلاقة المميزة بسورية يفقد لبنان هذه الفرص، ويعني ترك المبادرة للقوى الدولية والإقليمية التي يريد بعض مَن في الحكومة السير وراءها في العلاقة بسورية. وهذا أبشع أنواع التخلي عن مفهوم السيادة، وتعبير ذليل عن قرار الالتحاق والتبعية، ومصطلح النأي بالنفس هنا كذبة كبيرة، حيث يقرر لبنان الانضواء في حلف الحرب على سورية وينتظر قرار السلم من أصحاب الحرب ليلحق بهم، وغداً عندما تفرض الوقائع المتسارعة على بعض الوزراء ملء الفراغ بمبادرات تفرضها طبيعة وزاراتهم يخرج من يتحدث عن الانفراد بملف العلاقة بسورية.
– في العنوان الثالث الخاص بالانتقال بلبنان من التنظيم الطائفي إلى التنظيم اللاطائفي للدولة ثمة ثلاثة استحقاقات دستورية، أولها تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية، وثانيها إقرار قانون انتخابات خارج القيد الطائفي وتشكيل مجلس للشيوخ، وثالثها التشدد في حصر المناصفة في الوظائف بوظائف الفئة الأولى واعتماد المباراة والكفاءة أساساً وحيداً للتعيينات في ما دون الفئة الأولى. والبيان الوزاري الذي يتجاهل هذه الاستحقاقات يترك المبادرة بيد القوى الطائفية، التي تقدّمت شوطاً طويلاً بتعميق التنظيم الطائفي، وصولاً لنوع من أنواع الفدرالية الكامنة، وغداً عندما يحمّل أي من القوى السياسية المسؤولية للحكومة عن تعاظم مخاطر التنظيم الطائفي عند أي توتر يهدد السلم الأهلي ويقول إنه من نتاج تخلي مجلس الوزراء عن مسؤولياته السيادية، سيُقال له إنه يقول ذلك لأنه خارج الحكومة.
– تحمّلوا مسؤولياتكم الدستورية كحكومة، ولا أحد يريد منافستكم على مقاعدها.