العالم العربي في العام 2019 والخيارات الصعبة
سركيس أبوزيد
لم تهدأ الأوضاع في العالم العربي ولم تقف عند حد. الأزمات تتناسل وتتلاحق. فالمنطقة ما تزال رابضة على "صفيح ساخن"، ظاهرها متموّج، وباطنها متفجّر، وكل ملفاتها عالقة تبحث عن حل مفقود أو مؤجل، ويكتنف الغموض مسارها ومصيرها. بقيت الأزمات والعناوين هي ذاتها في ساحات اليمن وليبيا والعراق وسوريا، وسارت الى مزيد من التأزم والتصعيد والتعقيد.
وإذا كانت "صفقة القرن" العنوان الإفتراضي العريض لسنة 2018 ، فإن مصيرها يُكتب ويُحدد، وهماً أم واقعاً، في العام 2019 التي يُعدّ عاماً صعباً و"مفصلياً" لأنه السنة الفعلية الأخيرة من ولاية ترامب.
فعلى الساحة السورية نجد أن الرئيس الأسد حقق في العام 2018 وضعاً مريحاً ومتقدماً، ولكنه لم يصبح في مأمن وفي منأى عن المشاريع والمصالح الإقليمية والدولية المتقاطعة أحياناً والمتضاربة أحيانا أكثر، والتي حوّلت الأزمة السورية إلى أزمة إقليمية - دولية ما زالت مفتوحة على "المفاجآت" في ظل إستراتيجية أميركية، بندها الأول إخراج إيران من سوريا.
الحرب على سورية تقف على عتبة العام التاسع وسط مؤشرات تدل الى احتدام الصراعات والتعقيدات الإقليمية والدولية على أرضها، والى أن أمد الصراع سيطول لفترة إضافية بعدما كان الاعتقاد السائد أن سوريا توشك على الانتقال من حال الحرب الى مرحلة التسوية، استنادا الى اتفاقات أميركية - روسية والى مسار الأستانة الموازي لمسار جنيف. الحرب فيها تطورت من حرب أهلية الى حرب إقليمية بعد تدخل إيران وتركيا، والى حرب دولية باردة بعد تدخل روسيا عسكريا وقرار أميركا بالتدخل العسكري المقنّع عبر الأكراد، قبل أن تقرر الإنسحاب المفاجئ والذي أطلق يد روسيا في إيجاد الحل السياسي الذي يناسبها ويراعي مطالب ومصالح تركيا وإيران والكيان الاسرائيلي، فيما العامل أو اللاعب العربي خارج طاولة المفاوضات والتسويات.
في المقابل شكلت الإنتخابات البرلمانية على الجانب العراقي حدثا مفصليا في العراق، ولكن هذا الحدث أفرغ من زخمه ومفاعيله بسبب إشتداد الصراع السياسي الذي أدى الى أزمة تشكيل الحكومة والى توقف عملية الإصلاحات والتنمية، والى أن يكون العراق لسنة إضافية أسير إنقسامات سياسية وطائفية ومذهبية، وفي ظل "تحديات متغيّرات عميقة" اجتاحته، داخلية وإقليمية ودولية، بعد مخاض عسير عاشه هذا البلد خلال الأعوام الأربعة الماضية بعد ظهور "داعش" أسفر عن تحوّلات سياسية واجتماعية واقتصادية لا يمكن الاستهانة بها.
في اليمن خيم فشل الحسم العسكري مع تعذر حسم المعركة في "الحديدة" ذات الموقع الاستراتيجي على ساحل البحر الأحمر. ولكن عدم تحقق الحسم العسكري فتح طريق المفاوضات في السويد برعاية أممية.
المفاوضات لن تكون رحلة سهلة، لأن تركيبة اليمن صعبة كتضاريسه، ولأن الحرب أضافت مخاوف جديدة إلى مخاوف قديمة.
فاليمن دخل المفاوضات ولكنه لم يخرج من الأزمة، ومستقبله يلفه الغموض الكثيف، بعدما استنفذت الحرب أغراضها وخلصت الى نتيجة مؤداها أن الحسم العسكري متعذر على التحالف العربي بقيادة المملكة السعودية، وأن الحل السياسي لن يكون إلا على أساس القرارات الدولية وتكريس الواقع الجديد الجغرافي السياسي الذي أنتجته الحرب.
في فلسطين، فقد فعل ترامب ما لم يفعله ولم يتجرأ عليه أي رئيس أميركي من قبل، حيث تم فيها نقل السفارة الأميركية الى القدس والإعتراف بها عاصمة للكيان الإسرائيلي. وهذه الخطوة أُدرجت وكبند أول في خطة أميركية متكاملة ومتدرّجة سُمّيت "صفقة القرن" لإقامة صفقة سلام إقليمي شامل ونهائي على قاعدة السلام مقابل التطبيع.
وبينما يحتفي الإسرائيليون بالهدايا الأميركية العسكرية والسياسية وبسقوط حل الدولتين وانحسار الضغوط الأوروبية، وبالتغيير الحاصل في الأجواء العربية لا سيما الخليجية، يعيش الفسطينيون أسوأ أوضاعهم على كافة المستويات:
- المسألة الفلسطينية لم تعد أولوية في حقبة "الربيع العربي" وتدفع ثمن التحولات الكبرى وتطرح تحت عنوان "صفقة القرن".
- العالم العربي منهمك في مشاكله وإعادة صياغة خارطته السياسية الجغرافية.
- والدول الأوروبية المتخبّطة في مشاكلها لا تحرك ساكناً ازاء اندفاعة ترامب.
فالكيان الاسرائيلي مرتاح الى الالتزامات الأميركية الجديدة، ومطمئن الى ردة الفعل العربية المعتدلة والمقبولة، والتي تشير الى أن العرب باتوا يضيقون ذرعاً بالعبء الفلسطيني ويضعون في أولوياتهم العداء لإيران وتعاظم نفوذها، ويتطلعون الى التعاون مع "إسرائيل " ويحتاجون الى الدعم الأميركي العسكري والاقتصادي والمالي.
أما على الجانب السعودي فنجد إنتكاسة في مسيرة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان التي كانت صاعدة بسرعة صاروخية وطرأ عليها عطل مفاجئ أدى الى فرملة الإندفاعة الإقليمية للسعودية، والى سقوطها في حال من "فقدان التوازن وزمام المبادرة"، وحصل ذلك بسبب تداعيات قتل الصحافي جمال خاشقجي ، وكانت النتيجة أن بن سلمان صار بحاجة أكثر الى الرعاية والحماية الأميركية، والى تقوية تحالفه مع ترامب الذي يتقن سياسة المساومة والإبتزاز.
وفي ليبيا فقد جاء إنعقاد مؤتمر "باليرمو" في إيطاليا كمحاولة جديدة لإطلاق عملية سياسية بهدف إخراج ليبيا من أزمتها، وهناك فرصة حقيقية لإجراء الانتخابات في الربيع المقبل. ليبيا التي لديها في العام 2019 فرصة الخروج من نفق الحرب والفوضى والتناحر بين الجيش الوطني في الشرق بقيادة المشير خليفة حفتر والمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، المدعوم دوليا.
باختصار، خيّم مشهد ضبابي في العام الماضي على العالم العربي العالق في المنطقة الرمادية، والمتأهب للخروج من هذه المنطقة والدخول في مرحلة حاسمة لا مكان فيها للخيارات والإحتمالات الوسطى، فإما إنزلاق نحو مزيد من الحروب، وإما سلوك طريق التسويات، هذه السنة مفصلية لأنها السنة الأخيرة الفعلية من عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب وفيها يتحدد مصير خططه ومشاريعه .