تداعيات الانسحاب الاميركي من سوريا
سركيس أبو زيد
الرئيس الأميركي دونالد ترامب هو "رئيس المفاجآت"، يفاجئ الجميع من حيث لا يتوقعون وفي توقيت لا يحتسبونه. في بدايات العام فجّر مفاجأة الانسحاب الأميركي ومن طرف واحد من الاتفاق النووي الإيراني، ومن ثم مفاجأة تنفيذ قرار نقل السفارة الأميركية الى القدس. في نهاية العام فاجأ الجميع، حلفاء وخصوماً، بقرار الإنسحاب من سوريا. المفاجأة لم تكن فقط في توقيت القرار وإنما في شكله: انسحاب كامل وسريع من دون تنسيق مع الحلفاء، حيث كانت الولايات المتحدة قد احتفظت بنحو ألفي جندي منتشرين في شرق نهر الفرات، ومنبج شمال شرقي حلب، وفي قاعدة التنف في زاوية الحدود السورية ـ العراقية ـ الأردنية.
عنصر المفاجأة في قرار الانسحاب المباغت من سوريا يكمن أساساً في أنه جاء من خارج السياق الأميركي في هذه المرحلة، وغير منسجم مع التأكيدات والمواقف التي صدرت عن مسؤولين أميركيين ربطوا استمرار هذا الوجود بتحقيق ثلاثة أهداف هي:
- محاربة "داعش" ومنع ظهوره من جديد، وإلحاق الهزيمة الكاملة به!.
- احتواء إيران وإبقاء قواتها تحت المراقبة، ومنع فتح "أوتوستراد" تواصل بري بين سوريا والعراق.
- تحقيق الحل السياسي للأزمة السورية!.
أيّ من هذه الأهداف لم يتحقق، ومع ذلك لم يجد ترامب حرجاً في إعلان قراره بالانسحاب من سوريا ووضعه موضع التنفيذ الفوري والعاجل.
وعلى ما يبدو، فإن التطورات الميدانية هي التي دفعت ترامب الى سحب سريع للقوات الأميركية من سوريا. هذه التطورات تتعلق بالبدء في استهداف القوات الأميركية عبر عمليات متفرقة، كان آخرها وأشدها وقعا تلك التي حصلت في مدينة الرقة.
أيًا تكن أسباب القرار الأميركي، فإن النتائج والتداعيات المترتبة على هذا القرار هي الأهم وإليها تتجه الأنظار. فهذا التطور مثل تطورات مماثلة، إذ يُعد نقطة تحوّل في مجرى الأزمة السورية التي باتت محصورة ميدانيا في منطقتي الشمال والشرق، ويفضي الى النتائج والمتغيّرات التالية:
1- الطرف المعني مباشرة بالانسحاب الأميركي والخاسر الأول فيه هو "أكراد سوريا" الذين يشعرون أنهم تلقوا طعنة، وأن الحليف الأميركي خدعهم أو خذلهم وتخلى عنهم تاركا لهم أن يتدبروا أمورهم ومصيرهم بيدهم.
2- تركيا تبدو المستفيدة المباشرة والأولى من هذا الانسحاب الذي يفتح لها باب الدخول الى شرق الفرات. وهذا التطور على أرض سوريا سيكون له أثر إيجابي على منحى العلاقات الأميركية التركية ويسرّع في عملية إعادة بناء الثقة فيها وضمن برنامج أكبر لتطوير العلاقات يشمل إقرار بيع منظومة "باتريوت" الأميركية بقيمة 3.5 مليار دولار الى أنقرة، وإقرار صفقة مقاتلات "أف ١٥ " الأميركية للجيش التركي، وبحث تسليم المعارض التركي فتح الله غولن بعدما سلمت تركيا في وقت سابق القس الأميركي "أندرو برانسون".
3- توسيع مساحة التفاهم والتناغم مع روسيا داخل سوريا وخارجها.
4- دفع إيران الى مراجعة عاجلة للموقف في ضوء هذا التطور، فإخلاء الأميركيين لمنطقة شرق الفرات يطلق مرحلة من السباق المحموم لملء الفراغ الأمني والعسكري في هذه المنطقة بين ثلاثة لاعبين خارجيين: روسيا وتركيا وإيران، ولاعبين محليين: الأكراد الذين يشكلون الحلقة الأضعف، والنظام السوري الذي يشكل الحلقة الأقوى والمستفيد الأرجح من هذه التطورات المتجهة في نهاية المطاف الى تسليمه المناطق الكردية لإدارتها وحمايتها، مع مراعاة الهواجس الأمنية التركية والمطالب السياسية الكردية.
في المقابل، وعلى الجانب الاسرائيلي، أدى إعلان الانسحاب من سوريا الى ارتفاع وتيرة القلق الإسرائيلي، إذ سيحجب مشروعا أميركيا لـ"دعم ضم الجولان". وإذا كان نقل السفارة الأميركية الى القدس المحتلة والاعتراف بها رسمياً عاصمة للكيان الاسرائيلي كان واحدا من أحداث العام 2018 وواحداً من قرارات ترامب البارزة، فإن الاعتراف الأميركي بما يسمى "السيادة الإسرائيلية" على هضبة الجولان ودعم ضمها الى الكيان المحتل سيكون واحدا من قرارات ترامب البارزة في العام 2019. ومشروع القرار ينص على الاعتراف الأميركي بالسيادة الإسرائيلية على هضبة ومرتفعات الجولان المحتلة. ولكن الظروف ليست مناسبة للاحتفاء به في ظل أجواء القلق ازاء الانسحاب الأميركي من سوريا، والذي يعاكس رغبة وتوقعات" إسرائيل" ويمس مباشرة بأمنها ومصالحها.
وعلى وقع التفاعل الفوري مع قرار الانسحاب، رأت "القناة الثانية عشرة" في كيان العدو أن ""إسرائيل" بذلت جهوداً كبيرة من أجل إقناع ترامب ومن حوله بالبقاء في سوريا وعدم إبقائها وحدها مقابل الإيرانيين وروسيا.. ".
أما الأوروبيون فيعتبرون أن توقيت القرار الأميركي سيئ جداً لأنه يأتي فجائياً، فيما المفاوضات لتشكيل اللجنة الدستورية اقتربت من نهاياتها، وبالتالي فإن انسحاب أميركا سيكون له بالغ التأثير على مجرياتها. وقرار الانسحاب الأميركي يدفع الدول الأوروبية إلى التفكير ملياً بحاجة أوروبا إلى "استقلالية استراتيجية".
قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من سوريا أحدث بلبلة، وأظهر أن الأميركيين "يخربون اللعبة ولا يلعبون". وهو بالتالي يؤدي إلى تأكيد عدم صدقية الولايات المتحدة في العالم بعد انحسار الوجود الأميركي، وستزداد قناعة الأطراف السياسية المختلفة بجدوى توسيع التفاهم مع روسيا أكثر من الولايات المتحدة بسبب استقرار وعقلانية السياسة الروسية. وأصبح من الصعب الاعتماد على من لا يُعتمد عليه أو على قوى أصبحت أكثر خطراً على أصدقائها من أعدائها، بينما روسيا ستملك نفوذاً كبيراً ومتعاظماً في الشرق الأوسط وساحل البحر المتوسط، بما فيه من مكامن ومركز نقل وتخزين وتوزيع للغاز طبيعي، وما لذلك من تأثير كبير على مستقبل واستقلالية قرار القارة الأوروبية.