نموذج “كوباني” ولعبة الأمم
غسان جواد
العالم يشاهد مأساة الأكراد في كوباني، من دون أن يُحرِّك ساكناً. ولا يكتفي بهذا التواطؤ بل يستثمر فيه سياسياً ويجعل من المدينة السورية على الحدود مع تركيا نموذجاً صارخاً لطريقة بناء المصالح والاستراتيجيات على حساب الضعفاء ومَن لا يملكون القوة للدفاع عن وجودهم.
بات واضحاً أنّ كوباني بمواطنيها من الكرد السوريين تدفع ثمن الطموحات التركية والمصالح الاميركية، ومحاولات كلّ طرف تحويل "عملية الابادة” التي تتعرَّض لها المدينة جزءاً من مكاسبه السياسية وخططه لسوريا والمرحلة المقبلة.
كيف نفهم الصمت الاميركي حيال المجزرة المستمرة منذ ايام؟ ولماذا لا تشمل ضربات التحالف الدولي مقاتلي "داعش” الذين يجتاحون المدينة؟ وهل رفض المنطقة العازلة يكفي لحماية الاكراد في تلك المنطقة؟ وماذا عن الابتزاز والسلوك التركي الذي يحاصر آلاف المدنيين من الاطفال والشيوخ والنساء؟
كلّ هذا جزء من خطط وطموحات الاطراف المنخرطة في الحرب على سوريا. واشنطن لديها استراتيجية تتضارب أحياناً مع طموحات أنقرة بزعيمها العثماني الجديد رجب طيب اردوغان. وعند هذا التناقض "الموقت” تضيع مدينة بشعبها ومصائر أهلها، وتكاد تفنى لولا المواجهة العنيفة التي يخوضها مقاتلون اكراد من رجال ونساء مثيرين للاحترام والإعجاب.
هذا التقديم "التراجيدي”، ليس سوى مشهد ماثل أمامنا في اطار "لعبة الامم” والمشروع المتعدّد الاهداف الذي يجتاح المنطقة منذ العام 2011، ويستهدف شخصيّتها وكيانها وأوطانها وشعوبها ومجتمعاتها. إذا أحصَينا حجم الدمار والدماء والنزوح واللجوء والهجرات الجماعية التي نشاهدها من ثلاثة أعوام حتى الآن، نكون امام محصّلة وافرة في أجندة الخراب الذي لا يرحم أحداً.
ها هم مسيحيّو الموصل طُرِدوا وهُجِّروا من قراهم ومدنهم، وها هم الإيزيديون العراقيون سكان الارض الاصليّون يُنتهكون ويتعرّضون لأبشع انواع القهر والاضطهاد والتهجير القسري، وهذا مشهد "كوباني” وغيرها ماثل امام أعيننا وسنرى المزيد في المستقبل، إذا استمر هذا "المشروع” في تقدّمه ولم يواجهه أحد بالجدية المطلوبة.
هذا التحدي أصبح مطروحاً علينا كلبنانيّين بقوّة. تحدّي الصمود في وجه المشروع الاساس، ومتفرّعاته من تنظيمات وقوى إسلامية متطرفة. لم يعد الامر بعيداً أو مجرّد أخبار نُتابعها على التلفزيون. لقد اصبح الخطر على الحدود والاجندات كثيرة، وأبرزها أجندة "داعش” التي تحدّث عنها قائد الجيش العماد جان قهوجي أمس قائلاً إنها تهدف الى إيجاد "منفذ بحري” لدولتها في لبنان.
هل كلّ هذا التوصيف لا يعني شيئاً؟ وهل المخاطر التي تتهدّد قرى الحدود وصولاً الى عمق لبنان حقيقة أم وهم؟ ولماذا يتعامل معها البعض بهذه الخفّة ويتصرَّف كما لو أنها غير موجودة، أو كما لو أنّه "يمون” عليها اذا ما دخلت قرية أو مدينة لبنانية وقرَّرت تهجيرها وتدميرها؟
في الغرف المغلقة والصالونات والرسائل الخاصة، يراهن كثيرون على "حزب الله” في هذه المواجهة. ما يُنقل عن مراجع روحية وسياسية صحيح والكلام المنقول ليس كاملاً. لا يقتصر الأمر على المسيحيين، حتى النائب وليد جنبلاط وبعض خصوم الحزب السياسيين يعترفون بأنّه هو الجهة الوحيدة القادرة على مواجهة التكفيريين في لبنان، والبعض رفع مستوى اللهجة في رسائله الى الحزب مطالباً إياه بأن يستمرّ في المعركة ضدّ الارهاب في سوريا وعلى الحدود، ومن هذه الرسائل عبارة أرسلها مرجع ديني كبير ملخصها أنّ "عليكم الانتصار في هذه المعركة، لأنّ هزيمتكم تعني هزيمة لنا جميعا”.
"حزب الله” يتصرَّف في هذه المعركة انطلاقاً من مسؤولية وطنية، وكشَفت الأيّام أنّه كان السباق في استشعار المخاطر واتخاذ القرار في مواجهتها. ولأنّ الحزب لم يعتَد "صرف” منجزاته داخلياً، يُطمئن كثيرون الى خوضه لهذه المعركة ولنتائجها في الداخل اللبناني ايضاً.
الايام المقبلة ستشهد أحداثاً كثيرة، والمرحلة تحتاج كلاماً واضحاً وصريحاً. الجميع بمَن فيهم "حزب الله” يقفون خلف الجيش والمؤسسات الامنية والعسكرية، يبقى أن يتصرف البعض بمسؤولية وواقعية بعيداً من الصراخ والتهويل، حتى لا يشعر الارهابيون بأنّ لديهم "اصدقاء” في لبنان، على غرار اصدقاء الشعب السوري الذي رأينا أيّ كارثة قد حلّت به على أثر بداية "ربيع العرب”.
نموذج "كوباني” في لعبة الامم يجعلنا نخرج بخلاصة واحدة: لا مكان ولا وجود وبقاء للضعفاء، ونحن لدينا اوراق قوة ينبغي البناء عليها في هذه المواجهة.