النزوح في العراق … نزيف دائم
د. دياري صالح مجيد
مشكلة النزوح والتهجير القسري وما يرتبط بهما من مصطلحات لا تعد من الظواهر الجديدة في العراق . اذ شهد التاريخ بمختلف مراحله مثل هذه الحملات البربرية التي غيرت من معالم الخريطة السكانية في العراق بطريقة تبعث على اليأس لمن يتصور استمرار هذه الكارثة في المستقبل في ظل غياب الاليات الحكومية والضوابط المجتمعية التي تحول دون تكرارها . علما بانها مشكلة مركبة تخضع هي الاخرى لفكرة المشاكل المتراكمة الموروثة من ازمنة وحكومات سابقة لم تُقدِم على خطوات حقيقية لانهاء او على الاقل معالجة بعض ملفاتها الشائكة وما مشكلة تهجير الاكراد الفيلية بقرارات حكومية جائرة الا مثال تاريخي قريب عن هذه القضية .
منذ ان هيمنت احداث الموصل بتفاصيلها الموحشة التي تعود بنا الى حكايات ازمنة ما قبل التاريخ , والمشهد العراقي في طريقه الى مزيد من الازمات الخانقة التي تحيل هذا البلد الى رجل مريض بالكاد يتنفس قبل ان يشهد زلزلة اللحظات الاخيرة من عمره . حيث كشفت هذه الاحداث عن عمق الكراهية التي كانت تنمو في الخفاء في القرى والقصبات لتحتل المدن الكبرى وتنشر فيها خلاياها النائمة عبر آلية تكفير مقززة بحق الاخر المختلف مع ادوات التطرف وفكره المنحرف .
انسحبت في اعقاب الهجمات الدامية على الكثير من النطاقات الجغرافية التابعة للموصل , الكثير من العوائل تاركة وراءها ارثها وتاريخها وحكاياتها التي اصبحت مصدرا لزيادة وطأة الامها بعد ان انتشرت الاخبار باستهداف ذلك الارث الذي لم يسلم هو الاخر من بطش هذه المجاميع المتعطشة لمحو التاريخ الذي يعريها امام الحاضر ويكشف قبحها لكل ذي بصيرة انسانية متحضرة .
حركة النزوح والخيارات البديلة التي لجأ اليها النازحون والنطاقات الجغرافية الجديدة المستوحاة من فكرة ذات قدسية عالية لدى العراقيين اسمها الوطن , كانت تقوم في اطارها العام على عقيدة التوافق الديني – المذهبي وبدرجة ما على فكرة التوافق القومي . حيث لجأ اغلب المسيحيون والايزديون الى كردستان العراق لاعتبارات متنوعة يقف على رأسها فكرة تقبل الاقليم لتواجدهم في ظل الطبيعة شبه العلمانية للمجتمع فضلا عن انتشار الكثير من النطاقات المسيحية والايزدية هناك منذ فترات تاريخية بعيدة . في حين لجأ الشيعة الى النطاقات الاخرى التي تتوافق معهم على اساس هذه القاعدة من القناعات التي يبدو بانها هي الاخرى قد شكلت مصدر التوجه للعرب السنة الذين اجبروا على النزوح باتجاه نطاقات مشابهة بدرجة ما لتلك التي قصدتها بقية الجماعات السكانية في هذا البلد .
هناك في الوطن البديل تخيل الكثيرون بان ازمة النزوح ومعاناته القاسية ستجد لها حلا كريما او على الاقل بديلا مؤقتا يخفف وطأة الحمل الذي اثقل كاهل هذه العوائل التي لم تخرج الا بارواحها تاركة جهد السنين وراءها بلا امل في استرجاعه . لكنها تفاجأت بان الوجهة الجديدة داخل هذا الوطن لم تكن الا مرحلة اخرى من مراحل العذاب النفسي والاقصاء المجتمعي التي قادت بالامس الى خلق خطوط الصدع والانقسام السكاني داخل المدن التي سقطت بيد تنظيم داعش . وهو ماينبئ بان بوادر هذا الصِدام ستنتقل غدا الى المدن الجديدة التي تم اختيارها على اساس المؤشرات السابقة والاسباب لذلك كثيرة .
فهنالك مشكلة تمايز حقيقية بدات تجد لها مكانا في اوساط النازحين عبر محاولة عزلهم عن المدن الجديدة اما باسكانهم في مخيمات خاصة تكرس فكرة العزل هذه , او عبر تجميعهم في نطاقات هامشية تحول دون تماسهم المباشر مع مجتمع المدن الجديدة التي نزحوا اليها . وهي في اغلبها نطاقات غير لائقة بالسكن الآدمي تفتقر الى الخدمات المناسبة والى الرعاية الطبية التي تحتاجها هذه العوائل كما تفتقر الى فكرة توفير عناصر الجذب التي تربط النازحين ببقايا وطنهم الذي يبدوا بان قادته يتنكرون لهذه الازمة ويرمون بها وراء ظهورهم على امل ان تحل نفسها بطريقة عفوية ! .يضاف الى ذلك مشكلة اخرى تمثلت بالعامل الاقتصادي حيث تسعى المدن الجديدة الى الحيلولة دون اشراك القوى الشابة النازحة في سوق العمل الذي يعاني اصلا من اختلالات مؤسساتية عميقة . حيث اشار بعض اصحاب المهن الى انهم لايثقون اولا بالنازحين الشباب والى ان ابناء المدن الاصلية اولى من هؤلاء في الحصول على فرصة العمل . انه نوع من الظلم المجتمعي المركب الذي يلحق بنازح كل ذنبه انه ولد في بلد لا قيمة فيه للانسان ولا اهمية لمعاناته في ظل غياب السياسات التي من شأنها ان تسهم في ايجاد البدائل المناسبة لحياتهم المهددة بمزيد من الازمات .
كما تتكرس ازمة النزوح ومعاناتها في النطاقات الجديدة بعامل اخر مضاف اساسه فكرة الصِدام الثقافي وفي احيان كثيرة انسحاب التضامن والتسامح المجتمعي مع خصوصية قيم النازحين التي قد تتضارب في بعض مفرداتها مع ثقافة وسكان النطاقات الجديدة . مثل هذه الجزئية اقرب الى الحصول في المدن الدينية التي نزح اليها عشرات الالاف من هذه العوائل طمعا بالحصول على ملاذات آمنة تتوازن مع اتجاهاتهم الدينية ومنظومتهم القيمية باطارها العام الشامل . حيث بدأت بعض الاصوات المتطرفة , وهي الاصوات الاعلى تأثيرا والاقوى نفوذا في اغلب المدن العراقية , بالتاكيد على ان بعض النازحين يحملون بوادر انحلال تهدد الثقافة الدينية لهذه المدن بما لايحمد عقباه في المستقبل . لقد بات النازح مطاردا بعيون الشك والريبة والمراقبة لما يلبس ولما يطرح من آراء ولما ينتج من سلوكيات بحجة الحفاظ على الخصوصية الثقافية لهذه المدن حتى وان كانت كل تلك الاشياء لا تقوض اي مفردة من مفردات القانون او تعتدي على ابسط جزئية من جزئياته المستباحة اصلا في كثير من مفاصل دوره ومجالات تاثيره المفترضة في المدينة العراقية .
لم تنتهي الازمة عند هذه الاشكاليات بل تعدتها الى قضية تضرب بقوة في صميم بنية الامن والاوضاع الهشة التي يعيشها البلد . فقد اصبح النازح مكبلا بهم جديد اساسه التزامن الذي بدأ يحصل مابين ازمة النزوح واضطراب الاوضاع الامنية في المدن التي استقبلت هؤلاء النازحين . وهو ما دعى البعض في حالة هروب من المسؤولية الرسمية عن تتبع الجنات ومعرفة شبكاتهم والاماكن التي ينتشرون فيها , الى القول بان النازحين هم سبب هذه الخروقات الامنية ! . وهي تهمة بدأت تجد لها مسارات منحرفة في العقلية الامنية للتعاطي مع العديد من العوائل التي اضطرتها ظروف الارهاب الى ترك امانها النسبي الذي أُستلب منها , لتجد نفسها بطريقة بشعة مرغمة على ان تكون في دائرة الشك والاتهام بانها اليوم تساهم في استلاب امن الاخرين!. والحجة الرئيسة التي تطلق في تعميم هذه الظاهرة ان بعض الارهابيين وعوائلهم استغلوا ازمة النزوح للانخراط مع هذه العوائل والدخول الى اطراف المدن الجديدة ومن ثم التوغل الى نطاقاتها الحساسة لتنفيذ مآربها الخبيثة . وهو امر لا يخلو من الصحة لكنه ليس مدعاة لتعميم الحالة على كل النازحين في صياغة تكرس من ازمة النزوح بطريقة مرعبة.
كل هذه التفاعلات السلبية الخاصة بهذا الموضوع تحيلنا بمحصلتها الجمعية الى فكرة الاستبعاد الاجتماعي التي تتكرس بشكل كبير حين يضاف اليها بعد اخر مهم اساسه التمايز اللغوي بين النازحين والسكان الاخرين في المدن المستقبلة لهم . فعلى سبيل المثال اصبحت اللغة مصدرا لخلق هوة بين طرفي المعادلة تقود الى تخندق النازحين , هذه المرة لغويا وليس دينيا او مذهبيا , في حالة تعبير عن تضامنهم الجمعي في واحدة من اهم اسس بنيتهم الثقافية التي ينجح مجتمعنا دوما في ايجاد اشكال مختلفة لتكريس تمايزه عن البنية السكانية العامة . لذا اصبحت فكرة الصعوبة في التواصل اللغوي مصدرا اخر من مصادر هذا الاستبعاد خاصة وانه يشكل لدى العديد منهم مدخلا للعمل وايجاد فرصة اقتصادية وسكنية مناسبة . ولعل ابناء الاقلية التركمانية هم اكثر الامثلة الواقعية لهذا الموضوع.
كل هذه المؤشرات تنبئ بان هنالك صِداما مجتمعيا مستترا ينمو ببطء في العديد من المدن العراقية في ظل انعدام الرؤية الحكومية الخاصة بسبل علاج هذه الازمة التي يبدو بانها ستطول لفترة زمنية لاحقة تمتد لسنوات , وفي ظل الاعتماد غير المنطقي على المنظمات الدولية التي يبدو بان الجانب العراقي يريد ان يحملها مسؤولية انهاء هذه الازمة او على الاقل التقليل من وطأتها . وهي خطوة تعمق من شرخ انعدام الثقة بالمؤسسات الرسمية التي تؤكد كل الوقائع بان انعدام الكفاءة والنزاهة فيها يشكل مصدرا مضافا لجعل نزيف هذه الأزمة مستمرا بلا توقف .