’إسرائيل’ تهرب من المواجهة الشاملة.. والمقاومة تنتصر
جهاد حيدر
لم يكن يخطر على بال القيادتين السياسية والامنية في "تل أبيب"، أن تتحول إحدى عملياتها الخاصة وراء خطوط العدو، الى كمين يكشف محدودية خياراتها، وهشاشة تهديداتها ضد القطاع، وإلى فخ يتعرض فيها مستوطنو غلاف غزة للنيران الصاروخية. بعدما اعتادت على تنفيذ مثل هذه العمليات، من دون ضجيج.
فوجئت "إسرائيل" أولا، بفشل مثل هذه العملية التي كان يفترض أنها تتم تحت ستار مساعي التهدئة، وفي ظل هدوء أمني على جبهة القطاع. وربما تكون تعرضت لمثل هذا الفشل في محطات عديدة لكن من دون اعلان عن ذلك. إلا أن ما ميز هذا الفشل أنه اقترن بمفاجأة أخرى، تمثلت بدفع ثمن مؤلم جدا، من خلال مقتل ضابط رفيع في الوحدة الخاصة، برتبة مقدم، وجرح آخر. ثم ارتقت المفاجأة إلى أن المقاومة الفلسطينية لم تكتف بهذا المستوى، بل انتقلت إلى مرحلة جبي أثمان اضافية من الجنود والمستوطنين. فانهالت الصواريخ على المستوطنات، تزامن ذلك مع عملية صاروخ الكورنيت الذي استهدف باصاً للجنود، كان يمكن أن يتحول فعلياً إلى كارثة حقيقية. ولم يتوقف مسلسل المفاجآت عند هذا الحد بل اكتشفت "إسرائيل"، بعدما رفعت من مستوى اعتداءاتها، أن المقاومة كانت على استعداد فعلي للذهاب أبعد مدى في الردود الصاروخية إلى العمق الإسرائيلي.
هذا التسلسل التصاعدي وضع قيادة العدو أمام خيارات محدَّدة، وانتزع منها هامش المناورة الواسعة. وسلب من نتنياهو براعته الاعلامية التي يُسلِّم له بها حتى خصومه من السياسيين الإسرائيليين. ويعود ذلك، إلى أن ما احتاجت "إسرائيل" إلى 51 يوما في العام 2014، إبان عدوان "الجرف الصامد"، من أجل ادراكه توصلت اليه خلال 24 ساعة. وهو ما يكشف عن تطور قدرات المقاومة وتنامي خبراتها والاستفادة من التجارب السابقة.
بعدما فشل التهويل الإسرائيلي ورفع مستوى الاعتداءات في ردع فصائل المقاومة، وجدت القيادتان السياسية والامنية في "تل أبيب"، أن عليها أن تتبنى أحد الخيارات التالية: إما الذهاب نحو خيار المواجهة الشاملة بما فيها الدخول البري إلى قطاع غزة. أو رفع مستوى التصعيد مما شهده القطاع باتجاه توجيه ضربة أكثر قساوة إلى المقاومة وسكان القطاع.. أو القبول بصيغة تهدئة مجدداً..
فيما يتعلق بخيار المواجهة الشاملة، تجنبت "إسرائيل" هذا المسار، انطلاقا من ادراكها بأنه سيكون خياراً مكلفاً جداً على المستوى البشري والامني والسياسي، ولأنه لا أفق لهذه المواجهة، سواء لعدم امكانية الحسم العسكري مع المقاومة، اضافة إلى عدم وضوح ازاء مرحلة ما بعد حتى المواجهة الشاملة، سواء تضمن احتلالاً مفترضاً لغزة أم لا.
وما يرمي بثقله ايضا على مؤسسة القرار السياسي والامني في "تل أبيب"، أولوية عدم الانشغال عن الاستعداد والبقاء على جهوزية، لمواجهة تحديات الجبهة الشمالية، وتحديدا ما يتصل بتعاظم قدرات محور المقاومة في سوريا ولبنان، باعتباره "التهديد الأكثر خطورة وتعقيداً، على الامن القومي الإسرائيلي". وهو ما أشار اليه عضو المجلس الوزاري المصغر، يوفال شطاينتس، بالقول "نحن غير معنيون بالإنجرار إلى حرب لا فائدة منها ليس لها أهداف استراتيجية جدية من ناحيتنا. ولا استطيع القول أن احداً في "إسرائيل" لديه حل سحري". مضيفاً أن "المعركة التي نديرها مقابل تعاظم ايران وحزب الله في الشمال أهم بأضعاف"، لافتاً إلى أنه كان هناك "وحدة رأي في الكابينت بين المستوى السياسي والأمني". وسبق لنتنياهو أن أوضح ايضا، رؤيته لخيار الحرب مع قطاع غزة، ووصفها بأنها من النوع الذي لا طائل منها، وستجبي أثماناً وضحايا ولذلك سيحاول منع نشوبها.
أثبتت الساعات التي سبقت الاتفاق على وقف النار أن المقاومة الفلسطينية تملك الارادة والقدرة والاستعداد للذهاب بعيداً في الرد الصاروخي
فيما يتعلق بخيار التصعيد الواسع، بهدف تعزيز الردع، فقد أثبتت الساعات التي سبقت الاتفاق على وقف النار، أن المقاومة الفلسطينية تملك الارادة والقدرة والاستعداد للذهاب بعيداً في الرد الصاروخي. وأدركت "إسرائيل" في ضوء ذلك، أن أي تصعيد بهذا المستوى كان سيعني تورطاً إسرائيلياً مقروناً بعدم الحسم العسكري. فضلا عن أنه سيُعرض العمق الاستراتيجي للاستهداف الصاروخي. الامر الذي سيُعزز في ختام الجولة من قوة ردع المقاومة.
في ضوء ذلك، وجدت قيادة العدو نفسها مضطرة إلى الجنوح نحو خيار التهدئة، الذي ينطوي ايضا على اقرار مباشر بفعالية قوة ردع المقاومة في غزة، لكن مع أقل الأضرار، وعدم الانشغال بالمهم عن الأكثر أهمية وخطورة (الجبهة الشمالية)، ويؤكد على حقيقة تبدل معادلات القوة التي استجدت بعد انتقال الثقل الرئيسي في الصراع مع "إسرائيل" إلى حركات المقاومة في لبنان وفلسطين. من هنا لم يكن مفاجئاً ما كشفه موقع صحيفة "يديعوت احرونوت"، وغيره ايضا، عن أن "نتنياهو لم يعرض الاتفاق للتصويت في جلسة الكابينيت التي استمرت سبع ساعات، لكن أيا من الوزراء لم يتحفظ أو يعارضه، ودعموا بالنهاية موقف قادة الأجهزة الأمنية الذين أوصوا بمنح الجهود المصرية فرصة للتوصل لتهدئة مع "حماس".
على مستوى الرسائل ايضا، أظهر الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، تصميمه على مواجهة كل مخططات تصفية القضية الفلسطينية، وكشف ايضا عن قدرة صمود وارادة بالقتال، تبشر بالتفاؤل ازاء مستقبل الصراع على أرض فلسطين. وتؤكد على حقيقة أن كل مخططات التطبيع لن تستطيع أن توهن من عزيمتهم وارادتهم على المواجهة.
لجهة الخيار والتوقيت، من المؤكد أن عواصم التطبيع الإقليمي معنية بهذه المواجهة بدرجة لا تقل عن "تل أبيب"، وتدرك أن كل صاروخ يطلقه مقاوم فلسطيني هو في الواقع يستهدف مخططاتهم وتخاذلهم. ويشكل بالنسبة لهم مؤشر على فشل مخططهم المتصل بتطويق الشعب الفلسطيني واحباطه.