حينما تفشل كل الخيارات حيال طهران..
عادل الجبوري
كل من يترك ايران فترة من الزمن ويعود اليها، لا بد ان يجد تحولات ومتغيرات بأشكال وصور مختلفة، بعضها ذات طابع اقتصادي وبعضها ذات طابع سياسي وبعضها الاخر ذات طابع ثقافي-اجتماعي.
تلك التحولات والمتغيرات لا تلتقي ولا تعكس بالمطلق ما يثار ويطرح من على المنابر السياسية وعبر وسائل الاعلام الغربية وبعض من العربية والاقليمية لتؤكد حقيقة مهمة للغاية الا وهي ان اية قراءة للواقع الايراني تستند على ما يقوله ويسوقه الخارج لن تكون واقعية ودقيقة ما لم تأخذ بنِظر الاعتبار طبيعة ومداليل مجمل الحراك الداخلي للشارع الايراني.
فقبل حوالي عام، وحينما قرر الاتحاد الاوروبي فرض عقوبات اقتصادية على ايران من خلال التوقف عن استيراد البترول منها شهدت العملة الايرانية تراجعا كبيرا، وساد الاوساط السياسية والشارع الايراني قلق كبير، علما ان قضية الحصار والعقوبات ومختلف الضغوط الغربية لم تكن جديدة على طهران، فقد واجهتها منذ الايام الاولى لانتصار الثورة الاسلامية في ربيع عام 1979، وخبرت كيفية التعاطي والتكيف معها.
وفي هذه المرة بدا واضحا ان الغرب، لا سيما الولايات المتحدة الاميركية وبريطانيا وفرنسا-كان يسعى الى ارغام ايران على تغيير موقفها من الازمة السورية، ذلك الموقف الذي ساهم الى حد كبير في الحؤول دون إمرار المخطط الغربي-الاقليمي الساعي الى اسقاط نظام الرئيس بشار الاسد.
ولاسباب عديدة، من بينها عدم اعتماد ايران على البترول كمصدر وحيد للدخل الوطني، وانتهاجها سياسة الاكتفاء الذاتي، وقدرتها على ايجاد اسواق عالمية بديلة لتسويق نفطها، وارتباطها بحلفاء دوليين واقليميين لهم ثقلهم وتأثيرهم في توجيه مسار الوقائع والاحداث، منيت الخطوة الغربية-الاوروبية بالفشل الذريع.
التمسك الايراني بسوريا
فطهران لم تغير موقفها حيال دمشق، بل ازدادت تمسكا به، والعقوبات الجديدة لم تؤثر عليها بأكثر مما اثرت عليها عقوبات سابقة، وحضورها وتأثيرها في المشهد الاقليمي العام اتسع نطاقه بدلا من ان ينحسر وينكمش في مساحات محدودة وزوايا ضيقة، ودبلوماسيتها في التعامل مع القوى الدولية بشأن برنامجها النووي كانت ناجحة الى حد كبير، ان لم توصف بالمتميزة.
وفي الاسواق الايرانية، نادرا ما يعثر المتتبع على منتج مستورد، فبدءا من رقائق البطاطا (الشيبس)، مرورا بسلع الاستهلاك اليومي الغذائية، ووسائط النقل، والمواد الكهربائية والالكترونيات، ومواد البناء والاثاث، وصولا الى منشآت انتاج وتوليد الطاقة الكهربائية والبتروكيمياويات والبترول وغيرها، جميعها تنتج في مصانع ايرانية وبأيدي وخبرات ايرانية.
وتشير يومية (financial tribune ) الاقتصادية الايرانية التي تصدر باللغة الانجليزية في احد اعدادها الى ان عائدات ايران من المنتجات غير النفطية بلغت خمسة عشر مليار دولار خلال شهر تموز/يوليو الماضي.
ومثل هذا الرقم لا يستهان به في اية قراءة موضوعية لواقع الاقتصاد الايراني، ومدى تأثير العقوبات الاقتصادية على الايرانيين.
صحيح ان هناك قدرا من التذمر والقلق في الشارع الايراني، وهناك تراجع في حركة الاسواق، وهذا امر طبيعي جدا في الظروف الاستثنائية، بيد ان مظاهر الاستقرار الاقتصادي، وحراك البناء والاعمار والنهوض، واضحة للعيان في كل مكان.
ويرى خبير اقتصادي ايراني، ان سر نجاح ايران في التغلب على العقوبات الاقتصادية الخارجية، يكمن في تعدد وتنوع البدائل والخيارات، ان على صعيد الاقتصاد، او العلاقات الخارجية، او المواقف التي لا تفرط بالمبادئ والثوابت ولا تقفز عليها.
ولعل وصول الشيخ حسن روحاني لمنصب رئاسة الجمهورية في انتخابات صيف عام 2013، عد مؤشرا ايجابيا على امكانية تخلص طهران من بعض الضغوط التي ربما ارتبطت بطبيعة الخطاب السياسي والاولويات المطروحة، وبالفعل فإن نجاح المفاوض الايراني بتحقيق مكاسب في الملف النووي اضاف رصيدا مهما لطهران، وافرغ العقوبات الاقتصادية الاوروبية من محتواها.
الى جانب ذلك فإن بقاء الرئيس بشار الاسد وفوزه بدورة رئاسية اخرى مدتها سبعة اعوام، وفشل المخطط الداعشي للسيطرة على العراق، وتحقيق الحوثيين انتصارات ومكاسب كبيرة في اليمن، وفشل الكيان الصهيوني في حربه على قطاع غزة، وتماسك المحور الروسي-الايراني-الصيني-السوري-العراقي في قبال المحور الاميركي - البريطاني - السعودي - التركي - القطري، وبقاء حزب الله اللبناني رقما صعبا في معادلة الصراع مع الكيان الصهيوني، كل ذلك عزز من مكانة ودور وتأثير طهران اقليميا ودوليا.
والاشارات التي اطلقتها الادارة الاميركية تجاه طهران، وكذلك الاشارات السعودية، وحرص اطراف اخرى-مثل تركيا وقطر والامارات-على عدم الذهاب بعيدا في تأزيم العلاقة مع ايران، عكست حقيقة السياسات المعتدلة والعقلانية للاخيرة، وفشل كل الخيارات التي اريد من خلالها عزلها وتهميشها.
لم تغير طهران سياساتها برحيل الرئيس السابق محمود احمدي نجاد، ومجيء الشيخ حسن روحاني، ولم تتنازل عن ثوابتها، وهذا ما اكد عليه آية الله العظمى سماحة الإمام السيد علي الخامنئي في مناسبات عديدة، وأكد عليه كذلك زعماء سياسيون ودينيون في طهران وقم، ما تغير هو اليات التعاطي مع المشاكل والازمات، وطريقة ادارة الملفات لا اكثر ولا اقل.
ولعله من الحماقة ان تعيد القوى الغربية تجريب ذات الخيارات مع طهران، وفي ظل نفس الظروف والاوضاع، وتنتظر او تتوقع نتائج مغايرة، فالعقوبات الاقتصادية، لم تسقط النظام ولا اوجدت ثورة ضده بقدر ما ساهمت في تأمين وتوفير البدائل والخيارات المناسبة، والحركات المضادة، مثل تلك التي رافقت انتخابات عام 2009 الرئاسية هي الاخرى لم تسقط النظام بقدر ما كشفت عن بعض من اساليب اعدائه وعقم تلك الاساليب وعدم جدواها، فضلا عن ثغرات وهفوات هنا وهناك.
ايران من الداخل تبدو في هذا الوقت اكثر قوة مما يفترض او مما ينظر اليها من الخارج، بينما تجد اعداءها وخصومها يتخبطون ويتجادلون فيما ينبغي فعله حيالها وما لا ينبغي فعله.
اذا كانت حربا بادرة، فإنها لم تحسم حتى الان، بيد ان طهران متقدمة فيها، واذا كانت حروبا ساخنة هنا وهناك فإن مؤشراتها ومعطياها ونتائجها تؤكد هي الاخرى ان طهران لم تخسر ولم تهزم في أي منها حتى الان.