kayhan.ir

رمز الخبر: 8201
تأريخ النشر : 2014October08 - 19:43

الواقعية الفلسطينية تقتضي إبقاء “السلطة” و”المقاومة” معاً

عبدالوهاب بدرخان

الأميركيون مقتنعون ضمنياً بأن "حلاً عادلاً” للقضية الفلسطينية يمنح سياساتهم الشرق أوسطية مرونةً وصدقيةً يفتقدانها منذ زمن. لكن الاقتناع شيء والعمل شيء آخر، إذ إن سياساتهم ذاتها باتت تحول دون قيامهم بأي دور فاعل ومؤثر، وبالتالي صانع للحلول. فالإسرائيليون أنفسهم يعرفون حالياً أنهم استطاعوا تعطيل ما يسمّى "الوسيط الأميركي”، وأي وسيط آخر لن يكون أكثر قدرةً بل ستتكفل "إسرائيل” بتعطيله، إذا وُجد أصلاً، فلا أميركا ولا "إسرائيل” تقبلان أي وساطة أخرى، حتى لو كانت الأمم المتحدة ومجلس الأمن اللذين تسعى السلطة الفلسطينية إلى إعادة ملف القضية إلى كنفهما ورعايتهما، بمباركة من دول الجامعة العربية.

المطلب مشروع وطبيعي ومنطقي، غير أنه إشكالي ومتأخر وغير مجدٍ، ومع ذلك لا بد منه، فقط من أجل هدف متواضع جداً: تحريك القضية وإبقاؤها في قلب اهتمامات المجتمع الدولي. فشرط الوساطة الأميركية أن تكون هناك مفاوضات، بغضّ النظر عما إذا كان الإسرائيليون يريدونها للتوصل إلى حل أو للتفاوض إلى ما لا نهاية.

وبعد ثلاثة وعشرين عاماً على التفاوض من دون إنهاء الاحتلال، بل قبل ذلك، لا يحتاج الأميركيون ولا الأوروبيون إلى من يقول لهم إن "الآلية” لم تعد صالحة ولا بدّ من تغييرها، أو إلى من يذكرهم بما هو "الهدف” الأساسي. ولعلهم سمعوا بنيامين نتنياهو يقول أخيراً إنه مستعد "لتقديم مساومات تاريخية” ولكن "ليس لأن إسرائيل تحتل أراضي أجنبية، فالشعب الإسرائيلي لا يحتل أرضاً في أرض إسرائيل”. فهذا ما جاء في خطابه من على منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، الهيئة الدولية التي لا تزال قراراتها تعتبر "إسرائيل” "سلطة احتلال” للأراضي الفلسطينية. وما كان نتنياهو ليقول ذلك لولا أنه مستقوٍ مسبقاً بالـ "فيتو” الأميركي على أي تغيير في "إدارة الملف الفلسطيني”.

عملياً، لا يعني ذلك سوى إبقاء قضية شعب تحت الاحتلال تحت رحمة سلطة الاحتلال، بل يعني أيضاً أن الأميركيين والإسرائيليين (مهما قيل عن وجود خلافات بينهم) متفقون على منح الفلسطينيين خياراً واحداً هو التنازل عن حقوقهم أو القبول بوضعية الباب المسدود. تعلم واشنطن أن هذه ليست سياسة وإنما تحريض مباشر على العنف والإرهاب، وإذا كانت سياسة فهي ليست خاطئة فحسب بل يستحيل التوسّط بها أو التوصل إلى أي نتيجة. وما دامت تصرّ عليها فلا بدّ أنها تستند إلى ما يطمئنها، أي إلى موقف عربي لا يسمح للفلسطينيين بالذهاب بعيداً في قلب الطاولة، وإذا فعلوا فسيكون لديهم عندئذ ما يخسرونه. لكن مشكلة الموقف العربي أنه، مثل الأميركي، فقد المصداقية أيضاً، لا ينفك يختل ويضيّع التوازن. فالعرب يعتبرون، أقلّه وفقاً لقرارات الجامعة، أن "إسرائيل” لا تريد السلام وتواصل الاستيطان والتهويد لنسف أسس "حل الدولتين” وتستغل جمود المفاوضات للمضي في سلسلة إجراءات لتغيير الحقائق على الأرض. كما أن العرب هم الذين أقرّوا قبل خمسة أعوام ضرورة العودة إلى مجلس الأمن. وإذ وصلوا الآن إلى هذا المجلس لا يبدو أن لديهم استراتيجية متناغمة أو متكاملة مع استراتيجية تشير إليها السلطة الفلسطينية.

بعيداً عن الحكومات العربية المضللة أو المكبّلة أميركياً، يُستدل من النقاش النخبوي والشعبي أن هناك اتجاهين رئيسيين متداخلين: الأول يستند إلى "حرب غزة” الأخيرة ليقول إن المقاومة المسلّحة هي السبيل الوحيد للدفاع عن القضية الفلسطينية.

أما الآخر فيرى أن "السلطة” أخفقت بمراهنتها على المفاوضات وبالتالي فهي سقطت بسقوطها. فإلى أين يقود نقاش كهذا؟ قد لا يعلم أو لا يعترف أصحاب الاتجاهين أنه يقود على المستوى الفلسطيني العام إلى إضاعة البوصلة تماماً، وهذا من اللحظات النادرة في تاريخ القضية. وأسوأ ما فيها هو التحجر في الأفكار، إلى حدّ العجز والتعجيز عن إعادة تصويب التوجّه الفلسطيني عموماً.

نعم لا بدّ من إبقاء خيار المقاومة، ولكن نعم أيضاً هناك حاجة إلى السلطة الفلسطينية. وهذه معادلة لا يستطيع صوغها إلا الفلسطينيون أنفسهم. دعكم من التكاذب العربي صحيح أن الفلسطينيين عانوا طوال عقود نضالهم من مآرب هذا النظام العربي وذاك، لكن الصحيح أيضاً أن خلافاتهم لم تكن دائماً بسبب تلك الأنظمة وإنما بفعل أمراض السلطة التي اكتسبوها منها ثم أسقطوها على قضيتهم.

لم يكن مفاجئاً أن يقابل التحرك الدولي للرئيس محمود عباس بفتور واضح فلسطينياً يتناقض مع الحماس الساخن في 2011 عندما ذهب إلى الأمم المتحدة لمطالبتها بقبول عضوية "دولة فلسطين” فيها. ذاك أن التحرّك الجديد لا يعبر عن إحباط فحسب بل يحدد طموحاً لا يراه أحد "أكثر جدوى” من المفاوضات، بل يراه منتقدوه غير متناسب مع التضحيات التي بذلت في "حرب غزّة”.

لكن الواقعية الفلسطينية تفترض النظر أيضاً إلى "مفاوضات التهدئة” من أجل تقييم حقيقي وموضوعي لمخرجات تلك الحرب، فالمطالب قيد المناقشة محورها حقوق يراد استرجاعها واتفاقات سابقة يراد تنفيذها، والمعروف مسبقاً أن الحصار لن يفكّ كلياً. أي أن المأزق واحد عند "سلطة رام الله” و”سلطة غزّة”، فكلاهما محاصر.

كان لا بدّ للسلطة الفلسطينية من التحرّك الآن، ليس بدافع الإحباط بل لأن المجتمع الدولي منشغل بما هو في ظاهره قضية إرهاب لكنه في حقيقته يتعلّق بمصير الشرق الأوسط ودوله، والخوف كل الخوف أن تكون حرب قد بدأت وقضية الفلسطينيين مهمّشة وأن تقارب هذه الحرب نهاياتها بعد سنتين أو ثلاث وإذا بالقضية أكثر تهميشاً. كان من الضروري التوجّه إلى مجلس الأمن مع العلم مسبقاً بأنه سيكون مكلفاً للسلطة وللفلسطينيين، إذ إن نجاحه أو فشله يمكن أن يعطي عمقاً جديداً لخيار المقاومة. وربما من هذا المنطلق رأينا أن حركتي "فتح” و "حماس” تجددان تأكيد المصالحة والمشاركة في السلطة، فهذا هو الاتجاه الصحيح لا لأن الإسرائيليين والأميركيين يعارضونه بل لأن الانقسام والتعنت فيه تسببا بخسائر كبيرة للسلطة وللمقاومة.