"أوسلو 2".. في غزة
عوني صادق
يوم الثلاثاء الماضي، عقد في القاهرة اجتماعان: الأول، وتعلق بالمفاوضات غير المباشرة بين الوفد الفلسطيني الموحد والوفد "الإسرائيلي" المتعلق بالتهدئة التي نص عليها الاتفاق الموقع في 26-8-2014 لوقف إطلاق النار في غزة. والثاني، تعلق بالبحث في الملفات المختلف عليها والمعلقة الخاصة بالمصالحة الفلسطينية، وكلاهما كان برعاية مصرية.
بالنسبة إلى الاجتماع الأول، كان معروفاً أنه سيخصص لوضع "جدول أعمال" للمفاوضات، وقد تم ذلك، على أن تستأنف المفاوضات بعد شهر، أي أنه تقرر "تمديد" التهدئة شهراً آخر! وبالنسبة إلى الاجتماع الثاني، انتهى بصدور "بيان" تحدث عن التوصل إلى "اتفاق شامل" حول معظم القضايا: عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، ومسؤولية "حكومة التوافق" عن رفع الحصار، وإعادة الإعمار.
بداية، لم تكن الأجواء التي عقد فيها الاجتماعان توحي بالارتياح، وما أعلن حولهما أكد هذا الشعور. فبالنسبة إلى الاجتماع الأول، بدا أن نية وجاهزية للتحايل موجودتان، حيث كانت الأجهزة الأمنية "الإسرائيلية" قبله بساعات قد نجحت في عملية اغتيال استهدفت الشهيدين مروان القواسمي وعامر أبو عيشة، المتهمين باختطاف وقتل المستوطنين الثلاثة في الخليل، وما فعله الوفد الفلسطيني إزاء ذلك، لم يزد عن تأخير بدء الاجتماع ثلاث ساعات! وفي النهاية اتضح أنه تم "تمديد" التهدئة لمدة شهر، ولكن مع الحرص على عدم ذكر كلمة "تمديد" تجنباً لتاريخ الكلمة في الذاكرة الفلسطينية. عزت الرشق، عضو المكتب السياسي لحركة "حماس"، قال: تم الاتفاق على "استئناف المفاوضات في الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر/ تشرين الأول القادم"، وبذلك تم "دفن" الكلمة تحت الأنقاض!
في كل الأحوال ليست القضية مقتصرة على الكلمات، على أهميتها، فحتى "اتفاق أوسلو" كان يمكن أن يكون أقل سوءاً لو لم ينطو على "بعض الكلمات". لكن الأمر تجاوز الكلمات إلى ما وراءها. فالمعروف، حتى الآن، أن كل المطالب الفلسطينية في اتفاق وقف إطلاق النار إما مشروطة "إسرائيلياً"، بما يحولها عملياً إلى "مصلحة إسرائيلية"، وإما مرفوضة تماماً أو تقابلها مطالب "إسرائيلية"، تجعلها بدورها إما مستحيلة، وإما تنفيذها يقابله ثمن باهظ، يحولها هي الأخرى إلى "مصلحة إسرائيلية".
لقد ذكرنا عزت الرشق ببعض تلك المطالب، فقال: هي "إجراءات تثبيت التهدئة ووقف إطلاق النار، وإعادة بناء وتشغيل المطار والميناء، إضافة إلى وقف كل الإجراءات التي فرضها الاحتلال في الضفة بعد 12 يونيو/حزيران الماضي، ومنها الإفراج عن كل المعتقلين، وأسرى صفقة (وفاء الأحرار)، ورئيس وأعضاء المجلس التشريعي"! اللافت هنا، أن الرشق لم يتطرق لموضوع "إعادة الإعمار"، وإن بدأ ب "إعادة بناء وتشغيل المطار والميناء"! على أية حال ليس هناك خلاف بين المتفاوضين وراعيهم حول ضرورة وأهمية تثبيت وقف إطلاق النار وتمديد التهدئة، حيث تم الإعلان قبل التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، أن هدف المفاوضات هو التوصل إلى "هدنة طويلة"! أما بقية المطالب فهي موضوعات للمفاوضات المقبلة، نهاية أكتوبر/تشرين الأول القادم".
كلنا صرنا نعرف أن موضوع "إعادة الإعمار" ما زال كما كان عند إعلان وقف إطلاق النار. فالدول المانحة لم تعقد مؤتمرها بعد، وهي تعلن وتكرر أن كل ما ستجمع من أموال لهذا الغرض سيكون تحت تصرف السلطة الفلسطينية، وأن عمليات الإعمار ستخضع لمراقبة دولية (وبالتأكيد "إسرائيلية")، وسوف يتوقف الأمر كله على تنفيذ مخرجات مفاوضات "المصالحة". وفي حالة بدء التنفيذ فعلاً، فالمدة اللازمة لتحقيق خطط الإعمار، وفقاً للآلية التي وضعتها الأمم المتحدة كما يرى الخبراء، لا تقل عن عشرين عاماً! أما الأصعب والأخطر من ذلك، فهو أن الحكومة "الإسرائيلية"، ومعها الدول المانحة، وطبعاً الولايات المتحدة، (وبعض العرب)، كل أولئك يتمسكون بمعادلة (إعمار غزة مقابل نزع سلاح المقاومة)! وبطبيعة الحال، يدخل في المعادلة موضوع "إعادة بناء وتشغيل المطار والميناء"! كل ذلك عن غزة، ومن دون أن نتحدث عن الضفة.
ذلك يعيدنا إلى الاجتماع الثاني و"اتفاق المصالحة". البيان الصادر عن الاجتماع يبدو كأنه أنهى كل الخلافات، ووضع حداً لكل الاتهامات التي سبقته. لكننا، وكما يقال، رأينا هذا الفيلم أكثر من مرة، ثم عادت الأمور كما كانت قبل أن يصل المفاوضون إلى محل إقاماتهم! وتكفي الإشارة إلى "لجنة المتابعة" التي قيل إنها ستشكل "لمتابعة تنفيذ الاتفاق"! فالذين قالوا إنه تم الاتفاق على كل شيء، يعرفون أن ما قالوه ليس صحيحاً!
إذاً، كيف ستحل كل تلك القضايا، وكيف يمكن التوصل إلى اتفاق حولها، ومتى؟!
لا أظن أن أحداً في حاجة لتذكيره بالسنوات العشرين والمفاوضات العبثية بين الحكومات "الإسرائيلية" والسلطة الفلسطينية، ولا بمفاوضات "المصالحة" وبالسنوات العشر الماضية، منذ اتفاق القاهرة ،2005 ليتوهم أن اجتماعي القاهرة قد وضعا الأمور في نصابها! وإذا صحت تقديراتنا، يظل علينا فقط أن نذكر أنه نظرياً وعلى الورق، تحققت المصالحة، وتشكلت "حكومة التوافق" منذ شهور. لكن الواقع، وما جرى بعد ذلك، كذب الزعم النظري وكل ما رافقه من إعلانات وورق.
للأسف، لو صح ما قلناه، فإنه يوصلنا إلى استنتاج مرعب، يتلخص في أرجحية توالي "التمديدات" للهدنة، والعودة إلى الخلافات حول المصالحة. وإن حدث في الأثناء اختراق، فلن يكون إلا عبر تجديد الحرب! أما إن تمت المحافظة على التهدئة والتمديد لها، فسنكون أمام "أوسلو 2" في غزة.