الطائرات ورقيّة.. العبقريّة فلسطينيّة
زهير اندراوس
حكيم الثورة د. جورج حبش: "إنّ الصراع مع الصهيونيّة قد يستمّر مائة عامٍ أوْ أكثر، فعلى قصيري النفوس التنّحي جانبًا”.
لا يختلِف عاقلان بأنّ لُبّ الصراع التاريخيّ بين الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة وبين الحركة الصهيونيّة، ربيبة الإمبرياليّة والرجعيّة، كان وما زال وسيبقى حول ملكية الأرض، فهُمْ يُطلقون عليها اسم "أرض إسرائيل” ويزعمون أنّها "أرضٌ بلا شعب لشعبٍ بلا أرضٍ”، فيما يُصّر أبناء الشعب الفلسطينيّ على أنّ هذه الأرض بملكيتهم، ويؤكّدون في كلّ مناسبةٍ رفضهم لـوعد بلفور التعيس (02.11.1917)، الذي يتلخّص في أنّ "مَنْ لا يملك أعطى لِمَنْ لا يستحّق”، ويُشيرون: "كُنّا هنا قبلهم، وسنبقى بعدهم”.
***
التمسّك بالرواية و/أوْ السرديّة (The Narrative)، هو أحد مُقوّمات الصمود، ونسف المقولة الصهيونيّة بأنّ الكبار سيموتون والصغار سيَنسَوْن، فخلافًا لمُخططّات الثلاثيّ الدنّس: الإمبرياليّة، الصهيونيّة والرجعيّة العربيّة، لا تجري الأمور كما تشتهي سُفُنهم: الشعب الفلسطينيّ، وعلى مدار أكثر من مائة عامٍ على الصراع، أثبت للقاصي والداني، قولاً وفعلاً، بأنّه لن يخضع ولن يركع، وسيُواصل التشبّث بفلسطين، على الرغم من عدم تكافؤ القوّة والفرص بين الطرفين، وكلمّا ابتعدت النكبة، كلمّا اقترب الفلسطينيّ أكثر لأرضه، ليؤكّد ربمّا المقولة المأثورة التي أرساها حكيم الثورة د. جورج حبش: "إنّ الصراع مع الصهيونيّة قد يستمّر مائة عامٍ أوْ أكثر، فعلى قصيري النفوس التنّحي جانبًا”.
***
وبما أننّا نعيش في زمن باتت فيه الخيانة أكثر من وُجهة نظر، وَجَبَ التوضيح: الشعب الفلسطينيّ رفض قرار التقسيم (181)، الذي أصدره مجلس الأمن الدوليّ، لأنّه آمن وما زال، ووفق كلّ الدلائل والمؤشّرات سيبقى، بأنّه لا يُعقل بأيّ حالٍ من الأحوال، أنْ يتقاسم بيته مع مُستجلبٍ صهيونيٍّ من أوروبا أوْ أمريكا أوْ من الدول العربيّة، وبالتالي فإنّ الزعم الصهيونيّ والغربيّ المُنافِق والعربيّ الانبطاحيّ بأنّ الشعب الفلسطينيّ فوّت جميع الفرص للحصول على دولةٍ هو زعم مردودٌ على أصحابه. والشيء بالشيء يُذكر: الضفّة الغربيّة، والقدس بمُقدّساتها الإسلاميّة والمسيحيّة، كانتا من النكبة 1948 وحتى النكسة 1967، تقعان تحت سيادة الأردن، فيما كان قطاع غزّة يتبع لمصر. وبناءً على هذه الحتميّة التاريخيّة، يتساءل بعض العرب بخبثٍ: لماذا لم تعمل النظم العربيّة الحاكمة على إقامة الدولة الفلسطينيّة في الضفّة والقطاع وعاصمتها القدس الشرقيّة؟ والجواب على ذلك في غاية البساطة: لأنّ العرب، رفضوا تقسيم الوطن الذي يملكونه.
***
مُضافًا إلى ما ذُكر أعلاه لا ضير من توجيه السؤال المفصليّ: هل إقامة الدولة الفلسطينيّة في الضفّة والقطاع تضمن حقّ العودة للاجئين الذين تمّ ترويعهم وتهجيرهم في النكبة المنكودة؟ علمًا أنّ حقّ العودة لا يسقط بالتقادم، وهو حقٌ فرديٌّ وجماعيٌّ، فذلك الذي أُرغِم على ترك منزله في يافا أوْ عكا أوْ أسدود، يُريد العودة إلى بيته، لأنّ هذا حقّه الأساسيّ، كما أنّه باعتقادنا المُتواضِع، فإنّ العودة أهّم من الدولة. وعلى سبيل الذكر لا الحصر: كان عدد سُكّان قرية ترشيحا، في الجليل الأعلى، قبل النكبة حوالي خمسة آلاف نسمة، وقامت العصابات الصهيونيّة، بعد قصف القرية بالطائرات بتشريد السواد الأعظم من سكّانها، واليوم، بعد مرور أكثر من سبعين عامًا، يبلغ عدد سكّان ترشيحا، بحسب الإحصائيات الرسميّة، حوالي 70 ألف نسمة، فكيف سنُعطيهم حقّهم إذا قامت الدولة في الضفّة والقطاع؟ أوْ يجب صياغة السؤال كالتالي: هل خوّل هؤلاء اللاجئين كائنًا مَنْ كان أنْ يتحدّث باسمهم ويتنازل عن حقّهم التاريخيّ؟ الجواب، بطبيعة الحال، لا، ولكلّ مَنْ زال يُراهِن على "الشرعيّة الدوليّة”، لا غضاضة بتذكيره، بأنّ مجلس الأمن الدوليّ اتخذّ القرار رقم 191، الذي يضمن لكلّ لاجئٍ فلسطينيٍّ طُرِدَ من أرضه العودة إلى مسقط رأسه، وهنا الزمان وهذا المكان للتأكيد: إسرائيل، هذه الدولة المارقة بامتياز، لم تُنفّذ منذ تأسيسها أكثر من ستين قرارًا صادرًا عن مجلس الأمن الدوليّ، فأين العدل؟ ربمّا نجده في مقولة وزير الأمن الإسرائيليّ الأسبق، موشيه ديّان، الذي أكّد عام 1968: "إذا أردتَ أنْ تبحث عن العدل، فلن تجد إسرائيل، وإذا أردتَ أنْ تبحث عن إسرائيل فلن تجد العدل”.
***
وبما أننّا أتينا على ذكر ديّان، فنجد لزامًا على أنفسنا الاستعانة بكتاب المؤرّخ والنائب الأسبق في الكنيست، مردخاي بار-أون، من حركة (ميرتس)، الـ”يساريّة” (!)، والذي استعرض فيه مسيرة ديّان، (1915-1981)، حيث يكشف الكتاب الصادر عام 2014، النقاب عن أنّ ديّان كان بمقدوره في عدوان حزيران (يونيو) 1967 الامتناع عن احتلال القدس الشرقيّة والضفّة الغربيّة، ذلك لأنّ الجيش الأردنيّ لم يؤثر في معاركه على مجرى الحرب، ولكنّ ديّان لم يتمكّن من كبح غريزته، إذْ أنّ إسرائيل، بحسب المؤرّخ الصهيونيّ، توم سيغف، (هآرتس 30.09.14)، بقرارها احتلال الضفّة وجهّت رسالةً بأنّها تنازلت عن السلام. وجاء أيضًا في الكتاب أنّه عندما كان ديّان قائد المنطقة الشماليّة في الجيش، استغلّ الحكم العسكريّ، الذي كان مفروضًا على فلسطينيي الداخل (1948-1966) لكي يُصادر المزيد من الأراضي العربيّة لبناء المستوطنات اليهوديّة ضمن مشروع تهويد الجليل، الذي ما زال مستمرًا حتى يومنا هذا.
***
وآخذين بعين الاعتبار أنّ العلاقات الدوليّة محكومةً بموازين القوى، علينا الإقرار بأنّ الكفّة في هذه المرحلة تميل لصالح أمريكا، إسرائيل والرجعيّة العربيّة، ولكن تمسّكنا بالثوابت وعدم التنازل عنها هو سلاحنا الإستراتيجيّ لمنع الإجهاز على فلسطين، وبما أنّ الحديث يجري عن "صفقة القرن”، يجب تسمية الأمور بمُسمياتها: هذه ليست صفقةً، بل عبارة عن إملاءٍ أوْ مؤامرةٍ لترويض الفلسطينيّ، والجواب جاء من غزّة هاشم، وعلى لسان المُحلّل الصهيونيّ، روغل ألفر، الذي قال إنّ إسرائيل تمتلك الطائرة الأكثر تقدّمًا وتطورًّا في العالم الـ إف35، ولكنّها أعجز وأوهن عن إيجاد حلٍّ للطائرات الورقيّة التي ابتكرها العقل الفلسطينيّ الخلّاق والمُبدع، (هآرتس 05.06.18).
***
ختامًا: الشعب الفلسطينيّ كان وما زال وسيبقى رافضًا لتقسيم وطنه، وعليه، فإنّ مصير "صفقة القرن”، سيكون وأدها حتى قبل مولِدها، لإيماننا القاطع بأنّه لا يوجد فلسطينيّ في هذه المعمورة على استعدادٍ لقبولها، أوْ حتى الخوض في تفاصيلها، وعندما سيتّم دفنها، ونجزِم بأنّها ستُدفن، سنُردّد سويّةً: "الجنازة حامية، والميّت كلب”.