ولماذا نَشُك في أن يَنجَح الحِصار الأمريكيّ الوَشيك في إجبارِ إيران التَّفاوُض راكِعةً مِثل كوريا الشَّماليّة؟
عبد الباري عطوان
ربّما تكون حالة الهُدوء الحاليّة على الجَبهةِ السُّوريّة بعد مَعرَكِة تبادُل الصَّواريخ فَجر الخميس الماضي بين إيران وإسرائيل "مُؤقَّتةً”، لأنّها تأتي في سِياقٍ أضخم وأكثر تعقيدًا، ونتيجةَ صَفقةٍ عَقدها بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء زِيارته لموسكو يوم الأربعاء الماضي، من غَير المُعتَقد أن تُعمَّر طَويلاً، لأنّ موسكو لن تَستطيع الاستمرار في مَسك العَصا من الوَسَط لفَترةٍ طَويلة.
السُّؤال الذي يتردَّد بقُوَّةٍ هذهِ الأيّام في العواصِم الغربيّة يتمحور حول خَطوات الرئيس دونالد ترامب المُقبِلة بعد إلغاء الاتِّفاق النَّوويّ مع إيران، والدَّور الإسرائيليّ المُتوقَّع في المَرحلةِ المُقبِلة.
هُناك خياران مُترابِطان أمام الرئيس الأمريكي، أحدهما يُؤدِّي إلى الآخَر:
ـ الأوّل: أن يتم تفكيك الاتِّفاق وإعادة التَّفاوض عليه مُجدَّدًا، بحيث يتضمَّن النَّص الجديد وَقف مُطلَق ودائِم لتَخصيب اليورانيوم ودون تحديد أيِّ سقفٍ زمنيٍّ، وهذا التَّفكيك لا يُمكِن أن يتم إلا بمُوافَقة أو استسلام إيراني.
ـ الثَّاني: البِدء باتِّخاذ خَطواتٍ عمليّة لتَغيير النِّظام في طِهران بدءًا بفَرض حِصار خانِق يُؤدِّي إلى انهيار الاقتصاد، ودَفع الشَّعب الإيراني إلى الثَّورة، في حال فَشل الخِيار الأوّل، ونَفَّذَت إيران تهديداتِها بالعَودة إلى التَّخصيب.
***
الرئيس ترامب يَعتقِد أنّ إجراءات الحِصار المُوجِعة ربّما تَدفع القِيادة الإيرانيّة إلى الرُّضوخ لمَطالِبه والجُلوس إلى مائِدة الحِوار تمامًا مِثلما حصل مع كوريا الشَّماليّة ورئيسِها كيم جونغ أون، مِثلما يُروِّج المُقرَّبون مِنه.
لا نُجادِل مُطلقًا بأنّ الحِصار على كوريا الشَّماليّة كان قاسِيًا فِعلاً، وإذا كانت قَسوته هي الدَّافِع الفِعلي لرَئيسِها للقُبول بالمُفاوضات، فإنّ الأمر استغرق أكثر من عَقدين على الأقل قَبل أن يُعطِي مَفعوله، مُضافًا إلى ذلك أنّه لم يَمنع السُّلطات الكُوريّة الشَّماليّة من الاستمرار في تجارِبها وإنتاج رؤوس نوويّة، وصواريخ باليستيّة يُمكِن أن تُوصِّلها إلى الهَدف الذي تُريد، وربّما يُفيد التَّذكير أيضًا بأنّ الرَّئيس الكوبي فيدل كاسترو استطاع أن يُقاوِم الحِصار الأمريكي أكثر من خمسن عامًا ولم يَستسلِم.
ما يُمكِن قوله استنادًا إلى ما تقدَّم، أنّ الرِّهان على الحِصار لتَركيع القِيادة الإيرانيّة غير مَضمون النِّتائج، وأنّ ترامب نفسه قد لا يُعمِّر في السُّلطة حتى يَتحقَّق هذا الهَدف على أيِّ حال، ولهذا لا نَستبعِد أن يتم الانتقال إلى الخِيار العَسكريّ لتغيير النِّظام بالقُوّة، وإسرائيل تدفع بقُوّة في هذا الاتجاه، ولا نَستبعِد أن يكون القَرار قد اتُّخِذ فِعلاً، ويمكن الاستناد إلى أمرين مُهمَّين يُرجِّحان هذهِ النَّظريّة:
ـ الأوّل: مقال كتبه جون كريكاو، الضابط السابق في وكالة المُخابرات المَركزيّة (سي أي إيه) قبل يومين في موقع "كونسريتوم نيوز″، قال فيه أنّه بعد استدعائِه من باكستان حيث كان يُقاتِل تنظيم "القاعدة”، إلى مقر الوكالة في ربيع عام 2002، أبلغه رئيسه أنّ البيت الأبيض اتَّخذ قرارًا بغَزو العِراق والإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين في شباط (فبراير) عام 2003، وإنشاء أكبر قاعِدة أمريكيّة في جَنوبِه، وأضاف "إتُّخِذ القرار وبَدأت بعدها مرحلة البَحث عن الذَّرائِع، والسِّيناريو العِراقي يتكرَّر حاليًّا في إيران”.
ـ الثَّاني: تصريح خطير أدلى بِه جون بولتون، مُستشار الأمن القوميّ الأمريكيّ الجديد في خِطابٍ ألقاه في مُؤتمر للمُعارضة الإيرانيّة، (مُجاهدي خلق) في باريس ونَقلته صحيفة "الفايننشال تايمز” وقال فيه "أنّ حُكم الملالي في إيران لن يَحتَفِل بالعيد الأربَعين (11 فبراير) الذي يُصادِف شتاء عام 2019، وسَنراكُم هُناك في طِهران).
مرحلة جمع الذَّرائِع لتبرير أي عُدوانٍ أمريكيٍّ على إيران بدأت قَبل أن يُلغِي ترامب الاتِّفاق، من خِلال حملات إعلاميّة مُكثَّفة تقودها إسرائيل وحُكومات عربيّة تتَّهِم إيران بخَرق الاتِّفاق، وإقامَة مراكز سريّة لتَخصيب اليورانيوم، وتهديد أمن واستقرار الشَّرق الأوسط بَل والعالم بأسرِه، من خِلال دعمها لمُنظَّمات إرهابيّة، أبرزها تنظيم "القاعدة”، ولم يَكُن من قبيل الصُّدفة أن يُقَدِّم نتنياهو عَرضه لما أسماه وثائِق البرنامج النَّووي الإيراني قبل أيّامٍ من قرار ترامب.
لا نَستبعد أن تكون إسرائيل التي بَدأت الحرب ضِد إيران على الأراضي السُّوريّة، رأس حِربة في الحَرب الأمريكيّة القادِمة ضِد إيران، ونَذكر جيِّدًا أن ديك تشيني، نائب الرئيس جورج دبليو بوش، واحِد من أبرز مُهندِسي الحَرب على العراق، قال قبل بِضعة أسابيع من مُغادَرته البيت الأبيض (نوفمبر 20018)، بعد فوز الرئيس باراك أوباما في الانتخابات الرئاسيّة، أنّ الحَرب المُقبِلة ستكون ضِد ايران، وأمريكا لن تُشعِل فتيلها، ولكن إذا هاجمت إسرائيل طِهران فإنّها، أي أمريكا، ستَقِف إلى جانِبها.
الرئيس ترامب ردَّ على التَّهديدات الإيرانيّة باستئنافِ تخصيب اليورانيوم فور إلغاء الاتِّفاق بالتَّحذير مِن "عواقِبٍ وَخيمة” إذا أقدمت إيران على هذهِ الخُطوَة.
مايك بومبيو، وزير الخارجيّة الأمريكي الجَديد سيبدأ بالحَشد للحَرب في أوروبا والخليج والشَّرق الأوسط، بالطَّريقةِ نفسها الذي فَعلها كولن بأول قبل الحرب على العراق، ولن نَستغرِب خُروجه على شاشات التَّلفزة مُلوِّحًا بوثائِق وصُور تُؤكِّد وجود مراكز تخصيب سِريّة إيرانيّة على طريقة نتنياهو.
الجِنرال محمد علي الجعفري، قائد الحرس الثوري الإيراني، كان مُصيبًا في رأينا عندما تَوقَّع أمس وبعد ترحيبِه بإلغاء ترامب للاتِّفاق، أن يَحذوا الأوروبيّون حذو الرئيس الأمريكي، ويَقِفوا في خَندقِه في نِهاية المَطاف، وما لم يَقُله أو كاد "أن الكُفر مِلَّة واحِدة”.
***
لا نَعرِف كيف سيكون ردَّ الإيرانيين على كُل هذهِ السِّيناريوهات التَّهديديّة، وما نَعرفه أن الرئيس ترامب وصُقورِه ابتداءً من بومبيو وانتهاءً ببولتون أحرجوا المُعتدلين، وقَوَّضوا قاعِدتهم الشَّعبيّة، ولمَصلحة الجَناح المُتشدِّد في طِهران الذي لم يكن مُطلَقًا من بين المُؤيِّدين للاتِّفاق النَّوويّ.
ربّما يكون التَّهديد الذي أصدره العميد عباس سدهي رئيس مكتب العلاقات الشعبيّة في القُوّات المُسلَّحة الإيرانيّة الذي قال فيه أنّه "إذا هاجم الكيان الصهيوني إيران فإنّ عليه أن يعلم بأنّ تسوية حيفا وتل أبيب بالأرض سَتكون أمرًا حتميًّا”، مُضيفًا "أنّ العَدو يُعلِن جيِّدًا، أنّ "عهد أُضرب واهرُب” قد ولَّى، وأن القُوّات المُسلَّحة والحَرس الثوري على استعدادٍ لتَنفيذ أيِّ استراتيجيّة يُوعِز بِها قائِد الثَّورة”.
لدينا إيمانٌ راسِخ بأنّ الحَرب المُقبِلة سَتكون مُختلِفة، وأنّ إسرائيل لن تَنتصِر فيها، وأن بولتون لن يَحتفِل بهَزيمة الثورة الإيرانيّة العام المُقبِل في طِهران.. وما علينا إلا الانتظار.