سعد الحريري يخسر: صورة مأساوية و واقعية!
محمود ريا
لم تكن مناسبةً تلك الصورة التي وزعها إعلام تيار المستقبل لزعيم التيار سعد الحريري خلال تلقيه أخبار نتائج الانتخابات النيابية.
لقد أخطأ إعلام التيار في نقل هذ الصورة، وكذلك في توزيع مقطع الفيديو الذي بدا فيه وكأنه يتقبل التعازي من المقربين منه وزواره في قصره المنيف في وسط البلد.
كانت الصورة للاعب قمار هاوٍ وضع كل ما لديه على الطاولة.. وخسر كل شيء، فجلس متهالكاً على مقعده، بيده سيكاره الرفيع، وربما كأس مخفيّة في اليد الأخرى.. واستسلم لواقعه الأليم.
بقدر ما كانت الصورة مأساوية ، فإنها كانت واقعية، وبالتالي فإن انعكاسها كان مدمراً على معنويات ما تبقى من جمهوره في أطراف الجمهورية اللبنانية، وفي قلبها، العاصمة بيروت.
لقد خسر سعد، وخسر تياره الكثير. ليست الخسارة في عدد المقاعد فقط، وإنما في عدد الأصوات أيضاً. ليست الخسارة هي خسارة تكتل نيابي، وإنما خسارة زعامة وهيمنة وسيطرة على مقادير طائفة من الناس سلّمته قيادها خلال أكثر من عقد، فإذا به يفرّط بها، ما سمح لمن لديه القدرة أن يأخذ حصته من زعامتها.
في المبدأ، هذا ليس أمراً سيئاً للطائفة، وإن كان سيئاً لشخص الحريري. فأبناء المذهب السني في لبنان كانوا دائماً يملكون روحاً تشاركية، تتعدد فيهم الزعامات، وتتعاقب فيهم القيادات، ضمن حد أدنى من التفاهم والتعاون والتنسيق، الذي أعطى لهذه الطائفة مكانتها على الساحة اللبنانية، وسمح لها بتبوؤ مواقع أساسية في الدولة والنظام في لبنان.
كان هناك زعماء في المدن، وزعماء في الأرياف، وقيادات معروفة، وشخصيات وازنة، وكلها لها مكانتها وموقعها، ولها حصصها الوزارية ومقاعدها النيابية، التي تقلّ أو تكثر، تنقص أو تزيد، ولكنها لا تلغي أحداً ولا تختصر الطائفة في شخص أو في تيار.
إلى أن حصل الانقلاب الكبير ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، مع بروز نجم الرئيس الشهيد رفيق الحريري، الذي كان لديه فائض من القوة المالية والإقليمية، ما مكّنه من محو زعامات المدن والمناطق، وإطفاء وهج القيادات التقليدية والقيادات الجديدة في آن واحد.. واختصر كل شيء في شخصه الذي صنع له تياراً، سمّاه تيار المستقبل.
لقد كانت عائلات مثل آل الصلح وآل سلام في بيروت، وآل كرامي في طرابلس، وآل سعد في صيدا، وغيرها وغيرها، عائلات لها تاريخها، ولها مكانتها السياسية والاجتماعية، سواء من خلال التوارث أو من خلال النضال المشهود، فجاء وهج رفيق الحريري ليطفئ كل هذا، وليتوّج ملكاً من دون تاج، ولينصّب امبراطوراً للعائلة والعائلات، وللمذهب وللطائفة، ولبيروت ولكل المدن الأخرى، وصولاً إلى إعلانه ملكاً غير رسمي للبنان، وربما مالكاً له، بكل مؤسساته الحيوية، وشوارعه وإمكاناته، وصولاً إلى مدنه وقراه، وسهوله وجباله، وكل ما فيه.
ساعدت كل الظروف الرئيس رفيق الحريري للوصول إلى هذا الموقع على رأس لبنان: الظروف المالية، والظروف الإقليمية القريبة والبعيدة، والظروف الدولية، يضاف إليها كونه شخصية عليمة منفتحة يدير الأمور بما يتوافق مع مجرى الريح ومسار التيار، فربح الكثير الكثير.. ربما أكثر مما يجب.
وعندما بدأت الرياح تتقلّب في المنطقة، بدأت سفينة الحريري الأب تعاني من هذه التقلبات، فذهب ضحية التطورات، ويبقى للأيام أن تكشف حقيقة من استهدفه.. فغاب.
وورث سعد الدين الحريري التيار والجماهيرية والقدرة المالية، والعلاقات الإقليمية البعيدة والعلاقات الدولية المتعددة. وانبرى لقيادة التكتل السياسي الأكبر في المجلس النيابي وفي الحكومة وفي الشارع وفي لبنان ككلّ.
ولكن ما لم يكن يملكه سعد الحريري ثلاثة أمور أساسية: الظروف المساعدة في المنطقة، العلاقات الإقليمية القريبة.. والشخصية المحنّكة القادرة على إمساك خيوط اللعبة بيد واحدة كما ينبغي.
وبدأ سعد الحريري يصرف من رصيد "الوالد"، ومرّت السنون وهو يصرف، حتى أصبح في موقع يبدو فيه وكأنه خسر كل شيء.
التيار الأشمل صار تيارات متفرقة، لا بل متناحرة، وكل واحد من أصحاب مراكز القوى، الذين كانوا ينقادون بكل سهولة لرفيق الحريري، اقتطع حصة من التيار وصنع منها قاعدة له ينافس بها التيار الأم نفسه، قبل أن ينافس الآخرين.
والقوى التي كانت مجبرة على الخضوع لسطوة رفيق الحريري باتت تعبّر بقوة عن رفض هذا الواقع، ومن ثم أخذت تعبّر عن نفسها بكل ثقة واندفاع.. ونجاح.
الإمبراطورية المالية انهارت أو تكاد، والعلاقات الإقليمية البعيدة صارت في الحضيض، بعد ان احتُجز الرجل لأيام في الريتز في الرياض، وتعرّض لما تعرّض له من أمور لا ضرورة لإعادة التذكير بها ونكء الجراح التي تسببت بها، والتي لمّا تندمل بعد.
واليوم، يخسر سعد الحريري التكتل الأكبر. هو ما يزال يملك تكتلاً كبيراً، وهذا حقه، نتيجة وجود جماهير تؤيده على الساحة، ولا أحد ينكر عليه ذلك. ولكنه خسر التكتل الأكبر، وخسر قدرة التفرّد والهيمنة والتوحد في القرار وفي رسم السياسات وتوجيه الجماهير.
"الامبراطورية" باتت مدناً متفرقة، والعاصمة باتت أحياء، ولم يعد سعد الحريري السيّد الأوحد.
من بيروت العاصمة التي راح نصفها نتيجة تقسيمها إلى دائرتين، فتناسى الدائرة الأولى نهائياً، إلى الدائرة الثانية في بيروت، التي خسر فيها هيمنته، فانقسمت الحواصل فيها مناصفة تقريباً، بينه وبين منافسيه وعلى رأسهم حزب الله، الذي كان يدّعي غربته عن بيئة العاصمة، فإذا به يثبت وجوده بقوة واقتدار وانتشار أوسع مما كان يتخيّله كل مستشاري الحريري، وعلى رأسهم الوزير المهضوم نهاد المشنوق.
في الشمال التشظي أكبر وأخطر: طرابلس المدينة الثانية في لبنان وفي الطائفة تشظّت بين يدي الحريري الابن، فذهب نصفها تقريباً إلى غريمه نجيب ميقاتي، في حين أن بيت كرامي الذي حاول والده إقفاله على مدى سنوات عاد قوياً مع فيصل كرامي الذي أكد وجوده كزعيم شعبي حقيقي.
وإذا كانت عكار ما تزال ظاهرة كقلعة مستقبلية لعدة عوامل، فإن المنية والضنية تمرّدت وتعدّدت، والدليل موجود عند جهاد الصمد.
في صيدا كانت الخسارة منذ البداية مع انكماش فؤاد السنيورة وتراجعه عن الترشيح، ليعود أسامة سعد مناضلاً قوياً يحيي تراثاً من رفض سياسات التطاول على الفقراء ومحاولات سحقهم تحت سنابك الرأسمالية المتوحشة.
أما في البقاع الغربي فكانت الطامة الكبرى: مناصفة أخرى في الزعامة وفي المقاعد، وفي الآتي من الأيام.
عبد الرحيم مراد يعود بقوة، بالرغم من الحرب الشرسة والحملات الطائفية التي لم تقف عند أي حدود. وها هو "الغد الأفضل" يسجل انتصاراً واضحاً لا لبس فيه على "المستقبل" الذي لم يعد أحد يعرف كيف هو شكله.
لعب القانون النسبي دوره، ولعبت الظروف في لبنان والمنطقة دورها، ولعبت شخصية سعد الحريري نفسه الدور الأكبر في هذه النتيجة.
بالمجمل، سعد الحريري خسر، وها هو يحصي خسارته، مستلقياً على مقعده، حاملاً سيكاره، وفي عينيه نظرة كان لا يجب أن ينقلها إعلام المستقبل لجمهوره، المحبط أصلاً، المهشّم فعلاً، والفاقد للمستقبل.