العدوان التركي على سوريا: ماذا وراء الأكمة؟!
لؤي توفيق حسن
"إن نجاح أي طرف على مائدة المفاوضات يعتمد على قدرة هذا الطرف على المبالغة في وصف طلباته.. إن السذّج فقط هم الذين يبدأون بعرض طلباتهم الحقيقية" ـ هنري كسنجر
عفرين، في سياق حرب التكالب على سوريا . وفوضى أسماء بين عربي وكردي: "جيش سوريا الحرة" من جهة و"وحدات حماية الشعب الكردي" من جهة أخرى، وكلاهما من الطبخات الأمريكية أو هما جاهزان لتلبية مطبخها بالمواد !. والحقيقة أن المشهد في عفرين واقع ضمن مثلث تركيا الرافضة لكيان كردي على حدودها، امريكا واسترضاء الأكراد بجزء من سوريا . سوريا الدولة في مواجهة الاثنين معاً؛ كل ضلع يشتبك مع الآخر بل ويتناقض معه، ما يجعل المشهد معقداً بالتمام.
الأمريكي داعمٌ لقيام كيان كردي أو "بغلبة كردية"، والأكراد أملوا انفسهم بأن يبصروا بعض حلمهم "الكردستاني" ولو من سوريا وعلى حساب الطبيعة و"عشرة العمر" !، نقول هذا باعتبارهم ليسوا الغالبية في شمال سوريا بقدر ما هم جزء من أقوام وافدة على سوريا كما الأشورين شكلت مع اهلها السريان والكلدان والعرب نسيجاً سكانياً فريداً في تعايشه وتشابكه الأجتماعي؛ أما تركيا فإنها قلقة من مشروع اقليم كردي على حدودها خشية أن ينتقل بالعدوى إليها، وحيث الجزء الأكبر من "كردستان" التاريخية يقع في الجغرافيا التركية وفيه ما يربو عن عشرين مليون كردي في أعالي الفرات وجبال القنديل معاقل ثورتهم التي كانت سوريا داعماً تاريخياً لها، يا لها من مفارقة أن ينضم الأكراد إلى حفلة تناتش سوريا.. والمفارقة الأكبر أن يتخلى عنهم (أصدقاؤهم) الأمريكيون! إثر تفاهم عقدوه مؤخراً مع اردوغان كشفت عنه صحيفة "الواشنطن بوست"، سنأتي عليه فيما بعد، وهكذا باتت "وحدات حماية الشعب الكردي" في عفرين وجهاً لوجه أمام الآلة العسكرية التركية، لم تجد عضداً لها غير شركائها في الوطن من "قوات الدفاع الشعبي" من العرب السورين، فبات كلاهما في خندق واحد كما كانا عندما تصديا لداعش في عين عرب، ومؤخراً لم يجد الآلاف من نازحي عفرين مكانا يلجأون إليه ويأويهم إلا حضن الوطن السوري، ولعل في هذا وذاك تصحيحًا للمشهد النافر الذي اصطنعه الخارج تحت عنوان: عربي ـ كردي فيما حقيقة الصراع هي مع الخارج بالذات من أصحاب مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي يؤمل التركي نفسه بأن يكون شريكاً فيه علّه ينهش قطعةً من سوريا في هذا العرض من تكالب الضباع عليها!.
غصن الزيتون المحترق!
إنه لمن الوقاحة بمكان أن يطلق أردوغان على حربه في عفرين "عملية غصن الزيتون". كان الأولى به أن يطلق عليها: (حريق الزيتون) ليكون صادقاً ولو مرةً واحدةً في حياته، حيث أُزيلت قرى عن بكرة أبيها في سياق عملية تغير ديمغرافي وثقافي لتلك المنطقة. هناك حالياً ما ينوف عن 60 قرية أصبحت شبه مدمرة، كـ(دوديان، تل بطال، تل شعير، حوار كلس، قعر كلبين، سوسنباط، شيخ جراح، تل بطال شرقي، قبة الشيح، عولان، نعمان، وقباسين) وغيرها من القرى، فضلاً عن إجبار الآلاف من الأكراد إلى النزوح باتجاه عفرين؛ فيما يدعي أردوغان في خطابه الخارجي بأن "عملية غصن الزيتون" تستهدف الإرهاب المتمثل بحسب رأيه في حزب العمال الكردي المنضوي تحت لواء "وحدات حماية الشعب الكردي"، أما بين أنصاره ومحازبيه فهو يفاخر بأنه يقوم بخطوة استباقية لمنع قيام كيان كردي يتوسع بفعل الدومينو مهدداً وحدة بلاده. ولو كانت هذه حقاً هي دوافعه لكان الطريق الأقصر والأقل كلفة عليه هو التفاهم مع السلطة الشرعية في دمشق، بتمكينها من بسط سيطرتها على هذه الأراضي وهي جزء من سوريا. بل ومن يتحسس مخاطر السياسة الأمريكية الشرق أوسطية، لأدرك ضرورة قيام منظومة أمن أقليمية تحمي الجميع: سوريا العراق وايران فضلاً عن تركيا من أخطار التقسيم الذي يهدد هذه الدول الأربع. وقد أشرنا إلى هذا في صحيفة السفير "أردوغان وتشبيك البحار الثلاثة" (تاريخ 19-10-2016)ـ، ذاكرين بأن مشروع "الشرق الأوسط الجديد" يشتمل على تركيا في مراحل لاحقة كما أراد أصحابه، لأنه من غير المطلوب ولا المرغوب وجود دولة اسلامية بحجم تركيا تتطلع للاستحواذ على دور إقليمي مؤثر وهي على تخوم الكيان الإسرائيلي الغاصب حتى ولو كانت أطلسية. هذا هو جوهر أية استراتيجية أمريكية في المنطقة؛ لكن (الحنين) للشمال السوري وضمناً حلب ما انفك يراود مخيلة معظم من تناوب على حكم تركيا وهو ما يكشف عنه "مرسوم الملة" لعام 1920. غير أن الأمر يتجاوز الحنين عند اردوغان إلى حدود الهوس في استعادة (الأمجاد العثمانية)!. والذي تكشفه سياسة التتريك التي ينتهجها في المناطق التي احتلتها قواته، منها فرض تعليم اللغة التركية في المدارس وجعلها شرط للاعتراف بالشهادة الصادرة عن المناطق، ومنها فرض قوانين تركية على بعض الدوائر الحكومية، ولا سيما الدوائر العقارية تسهيلا لعمليات "شراء لأراض في المناطق المتاخمة للحدود والتي تتم بعشرات الهكتارات تحت التهديد، فضلاً عن تتريك أسماء بعض البلدات، فمثلاً جرابلس صار اسمها "كركميش"، وجبل عقيل أسموه "بولنت البيراك"، وبلدة الراعي "جوبان باي"، وإلى آخر ما هنالك!.
والخلاصة أن تركيا غيرت كل المعالم السورية ثقافةً وديمغرافيا وأينما وطأت أقدام جنودها في الشمال، منتهزةً انشغال الجيش العربي السوري في اكثر من جبهة وموقع.
ماذا رواء الأكمة
إن ما يجري لخطير جدًّا وهو يماثل إلى حد كبير ما شهدته فلسطين عام 1948. لاسيما بعد الشروع في تغير الديمغرافيا في خطة خبيثة جداً حيث تم توطين ما يربو عن 2000 عائلة من حي الوعر، وقبلها ما يزيد عن 200 عائلة تركمانية عراقية في منطقة "الباب"، وما زال مستمراً في توسيع رقعة سيطرته، وحتى اللحظة ما من أحد يمنعه بل يشعر بأن الجميع يطلبون وده، روسيا لإبعاده عن امريكا تتسامح معه!، وامريكا كيما يبقى في حاضنتها الأطلسية تمنحه الأمان!، بعد أن لوح لها بالورقة الروسية ما لم توقف دعمها للأكراد، ويبدو أنه نجح بحسب "الواشنطن بوست" بالاتفاق معها لتفتح ابواب منبج أمامة واعدة إياه بسحب "وحدات حماية الشعب الكردي" إلى شرق الفرات، قابلها من جهته بالسماح للطائرات الحربية الأمريكية بإعادة استخدام قاعدة "انجرليك". ما سبق يعني بانه بات متاحاً لأردوغان إقامة شريط حدودي بكيان منفصل وبهيمنة تركية امنيا وثقافياً ، يمتد من غرب الفرات إلى أدلب !!.
فماذا وراء الأكمة ؟!.. هذا هو السؤال ومن حقنا، ونحن نشعر بأن لحم سوريا يذهب جوائز ترضية أمام أعيننا.