بين الخضوع والمكابرة.. هل تغامر "إسرائيل" في رفض المعادلات الجديدة؟
يحيى دبوق
دخلت "إسرائيل" ومقاربتها العسكرية والأمنية للساحة السورية بداية مرحلة جديدة، من شأنها أن تؤسس لمعادلة وقواعد اشتباك مغايرة ومختلفة بينها وبين أعدائها لما كان عليه الوضع قبل فجر العاشر من شباط الجاري. إسقاط الطائرة الإسرائيلية، والمواجهة التي خيضت بعمومها، شكلاً ومضموناً ونتيجة، تعد كاشفة لموقف الجانبين وقرارهما وإمكاناتهما التي بدت "إسرائيل" فيها محدودة الخيارات، وكذلك قد تكون مؤسسة لمرحلة مقبلة، كما أنه لا يبعد أن تكون أيضاً تأسيسية لمعادلات جديدة، بدأ تبلورها مع صدور القرار السوري بالتصدي لاعتداءات "إسرائيل" ولجمها.
وبعيداً عن الدعاية الإسرائيلية التي حاولت، ولا تزال، تقليص صورة الانكسار وتداعياتها، وكذلك بعيداً عن الإفراط في الحديث عن الانتصار في الجهة المقابلة، إلا أنّ الحدث غير اعتيادي واستثنائي، ومشبع بالدلالات:
قد يكون من المبكر الإحاطة الكاملة بكل تداعيات ودلالات مواجهة فجر السبت الماضي، وما يمكن أن يؤسس ويبنى عليها من مسارات، علماً بأن للمبالغة في تقدير الدلالات إضراراً للموقف أكثر من كونه ذي فائدة. مع ذلك، في حد أدنى، الواضح أن قرار القيادة السورية وتوثبها للتصدي للاعتداءات الإسرائيلية، بإمكانه نقل الواقع و«المنازلة» المستمرة منذ سنوات مع "إسرائيل"، إلى واقع ومستويات وقواعد اشتباك مغايرة تماماً، وبما يشمل تقليص خيارات "إسرائيل" العملية في سوريا، التي كانت حتى الأمس القريب متاحة أمامها بلا تداعيات سلبية تذكر.
في ذلك، ستكون "إسرائيل" أمام اختبار غير سهل، ومحفوف بالمخاطر والتهديدات، في حال قررت معاودة الاعتداء في سوريا. صانع القرار في تل أبيب أمام سؤال كبير جداً، قد لا يجد إجابة عنه بلا مجازفات: هل يشكل التصدي السوري بداية مرحلة جديدة أمام اعتداءات "إسرائيل"، أم أنه قرار استثنائي ــ ظرفي؟ في هذا الإطار، قرار القيادة السورية بالتصدي لاعتداءات "إسرائيل" أهم في دلالاته وتداعياته على الموقف والقدرة الإسرائيليين، من نتيجة التصدي نفسها وإسقاط الطائرة الإسرائيلية وتساقط صواريخ المنظومات الدفاعية السورية على مجمل مساحة الشمال الإسرائيلي. في إسقاط الطائرة تضرّر لصورة "إسرائيل" وهالتها مع تصدع في قدرتها الردعية.
أما لناحية قرار القيادة السورية في التصدي، فيعني إضراراً بمصالح "إسرائيل" الاستراتيجية عبر تقليص خياراتها العلمية، ومنعها من تفعيل قدراتها العسكرية أو التهديد بها، لفرض مصالحها أو أجزاء منها، في سوريا وعبرها باتجاه أكثر من ساحة في المنطقة.
ضمن ذلك، يتجاذب "إسرائيل" حدّان: حد أول يدفعها إلى الحيطة والحذر، وبالتالي إلى الارتداع والرضوخ للقواعد الجديدة وفقاً للمتغيرات التي يعمل أعداؤها في سوريا على فرضها عليها، بما يدفعها إلى الامتناع عن خوض خيارات تحمل قدراً كبيراً من المجازفة، وقد تفضي إلى الأسوأ والمواجهة الشاملة التي لا تريدها ولا تقوى عليها؛ في حين أن الحدّ الثاني يفرض عليها الإصرار على التمسك بالقدرة على المبادرة العملانية العسكرية في سوريا ومواصلة السياسة المتبعة نفسها منذ سنوات، وتحديداً ما يتعلق بالقدرة على توجيه الضربات العسكرية في سوريا من دون أي تغيير، ربطاً بأن تحقيق مصلحتها في سوريا ومن خلالها غير ممكن من دون رافعة تأثير عسكرية، عبر إفهام أعدائها وحلفائها وخصومها وأصدقائها على السواء بأنها قادرة ومتوثبة ومقررة تفعيل قدراتها العسكرية لفرض مصالحها.
إضافة إلى المفاجأة الإسرائيلية، وُجد قدر كبير جداً من الإرباك
الواضح أن القيادة الإسرائيلية، وتحديداً القيادة العسكرية الحاكمة فعلياً وصاحبة القرار في هكذا ظرف وهكذا اختبار، قررت السبت الماضي الرضوخ وعدم إثارة الجانب السوري أكثر والامتناع عن التمادي، وخاصة أنها تلمست توثب دمشق وإصرارها في مواجهة اعتداءات تل أبيب. لكن، هل بإمكان "إسرائيل" مواصلة الرضوخ؟ كما هل بإمكانها الإصرار على سياسة الاعتداء؟ سؤالان كبيران جداً، لا يمكن تلمس الإجابة عنهما بالكامل، إلا بعد أن تقرر "إسرائيل" المجازفة من جديد، وأن تتلقى الرد.
كان واضحاً، من الساعات الأولى التي أعقبت المواجهة فجر السبت الماضي، أنه إضافة إلى المفاجأة الإسرائيلية، وجود قدر كبير جداً من الإرباك، انعكس في المواقف والتصريحات الصادرة عن تل أبيب، وكذلك في انعكاس الموقف على تقارير المراسلين والمعلقين في الإعلام العبري. إرباك لم تتراجع وتيرته ومستواه، لليوم الثاني على التوالي.
أيضاً كان واضحاً وجود توجيه من أعلى، ورضوخ رضائي من أسفل، على ضرورة ترميم الصورة المتشكلة للانكسار والفشل والإخفاق في مواجهة قرار التصدي السوري. محاولة خصصت باتجاهين اثنين: الأول تجاه الجمهور الإسرائيلي نفسه، والثاني تجاه الأعداء (وكذلك الأصدقاء والحلفاء) في الطرف الثاني. وهي محاولة تجندت لها المؤسسة السياسية، وفي المقدمة رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، وكذلك عدد من الوزراء، بما انسحب أيضاً على تقارير تصدرت الإعلام العبري..
تصريحات نتنياهو، وكذلك وزرائه، وتماشي الإعلام معه، انشغلت بجانب النتائج والموازين التكتيكية للمواجهة وتداعياتها، فيما جرى إهمال أبعادها ونتائجها الاستراتيجية، وأين موقع "إسرائيل" الجديد نتيجة ما يمكن أن يبنى عليه من واقع ومعادلات بدأت تتشكل بشكل سلبي في مواجهة "إسرائيل" في الساحة السورية ومنها.
على ذلك، ركّز نتنياهو في كلمة مختصرة جداً ومسجّلة بثت على قنوات التلفزة العبرية بعد ساعات من المشاورات في أعقاب التصدي السوري، على ما وصفه بـ«الهجوم الشديد على أهداف إيرانية وسورية»، مع تشديده أيضاً على أن «إسرائيل ستواصل الدفاع عن نفسها ضد أي هجوم عليها»، وهو ما عاد وكرره أمس في مستهل جلسة الحكومة، مع التركيز على تكرار أن «إسرائيل وجهت ضربة قاسية للقوات الإيرانية والسورية، وبعثت برسالة مفادها أن قواعد اللعبة بالنسبة إليها لم تتغيّر»، وهو تشديد كلامي لافت جداً ويشير إلى عدم القدرة على «بلع» النتائج، ومحاولة يائسة لقلب الحقائق، وخاصة أن الكلام عن «الضربة القاسية» لا يتوافق مع الواقع ومع محدودية الفعل الإسرائيلي كما حصل.
وما ورد على لسان نتنياهو ورد أيضاً مع مبالغة إلى حدود غير مسبوقة، لدى عدد من الوزراء. وكان واضحاً أن إرادة وضرورة طمأنة الجمهور حول قدرة وثبات واقتدار الجيش الإسرائيلي، متقدمة جداً إلى الحد الذي بالغت في التصريحات والمواقف بشكل مفرط وابتعدت عن الحقائق، وهو إفراط بطبيعة الحال مرصود من قبل الجانب الثاني من الحدود، ومعانيه ودلالاته ستكون حاضرة وجزء لا يتجزأ من عوامل قرار المواجهة المقبلة، إن قررت "إسرائيل" المجازفة من جديد.
وزير التربية والتعليم عضو المجلس الوزاري المصغر، نفتالي بينت، قال إنّه «وجهنا أمس ضربة عميقة جداً لمنظومة الدفاع الجوي السوري، وأصبحت دمشق مكشوفة»، فيما طالب وزير البيئة وأيضاً عضو المجلس الوزاري المصغر، زئيف الكين، «بضرورة عدم التركيز على الجزء الصغير بإسقاط الطائرة الإسرائيلية، بل التركيز على أننا وجهنا ضربة قوية جداً للقوات الإيرانية والسورية».
وزير الشؤون الاستخبارية، يسرائيل كاتس، أشار إلى أن «إيران بحاجة إلى وقت لتستوعب الضربة الجوية التي وجهت لها من قبل إسرائيل!».
وقال في مقابلة مع «القناة 12» إنه «بعد إصابة الطائرة الإسرائيلية، نفذنا ضربات جوية ضخمة وكبيرة جداً ضد النظام السوري وإيران داخل سوريا، وسيكون لها تداعيات ودلالات مستقبلية».
وفي محاولة على طريقة «هنا القاهرة»، أشار كاتس إلى أن «حقيقة أن حزب الله لم يشترك في المواجهة يدل على حجم الردع الإسرائيلي تجاهه»!
ولدى سؤاله إن كان قلقاً من الصورة التي عرضت أمام العالم العربي، وخاصة في لبنان، لطائرة الـ إف 16 المحطمة، وإن كان قلقاً أيضاً من محاولات جديدة قد يقدم عليها الأطراف الآخرون في اعتراض الطائرات الإسرائيلية التي تعمل فوق سمائهم، أجاب الوزير تساحي هنغبي: «لا شك أنهم سيحاولون. أعتقد أن الخطر من الشمال لا ينتهي. والشر الذي يأتي من الشمال هو تحذير وآية موجودة في التوراة، وللأسف هذا سيرافقنا سنوات طويلة».