kayhan.ir

رمز الخبر: 71599
تأريخ النشر : 2018February12 - 20:29

تكتيك أميركي بلا استراتيجية في أقصى الشمال السوري


فيصل جلول

عندما يسقط المرء في هاوية يستدعي المنطق ألا يحفر قعرها. هذه القاعدة البديهيّة لا تروق على ما يظهر للكرد في سوريا والعراق. فقد اختبروا لتوّهم موقف الولايات المتحدة السلبي وعدم اكتراثها بإعلان استقلال كردستان، ثم عقدوا رهاناً جديداً عليها في شمال شرق سوريا إثر وعد أميركي بإنشاء جيش كردي من 30 ألف مقاتل، الأمر الذي تسبّب بشنّ عملية "غصن الزيتون” التركية للحؤول دون وضع هذا الوعد موضع التطبيق. وتفيد التطوّرات على الأرض أن الولايات المتحدة الأميركية تراجعت عن "استراتيجيتها” المُعلَنة منذ عشرة أيام، وتعهّدت بعدم تزويد الكرد بالسلاح. هكذا خذلت واشنطن كرد سوريا بعد أن خذلت كرد العراق العام الماضي.

رغم ذلك لم يتوقّف الكرد عن الحفر في الهاوية التي سقطوا فيها. فقد عرضت عليهم روسيا قبل أسبوع من عملية "غصن الزيتون” تسليم مناطقهم للجيش السوري لقاء حمايتهم وإشراكهم في العملية السياسية، لكنهم رفضوا بعد أن قدّموا تنازلات شكلية من قبيل رفع العلَم السوري وتسليم مطار وقاعدة "منغ” المُدمّرة، فكان أن تقدّم الجيش التركي إلى أراضيهم مع إنذار للولايات المتحدة بسحب قواتها من "منبج” تحت طائلة إصابتها بقذائف تركية.

رد الفعل الأميركي على عملية "غصن الزيتون” لم يقتصر فقط على إعلان واشنطن امتناعها عن تسليح الكرد وتدريبهم في شمال شرق سوريا، بل رافقها قصف لمواقع حلفاء الجيش السوري في دير الزور من دون أن يؤدّي إلى تعديل يُذكَر في حال الجبهات المفتوحة ومن دون أن يشكّل مقدّمة لإنزال برّي والانخراط في القتال مباشرة على الأرض، ما يوحي بأنه محاولة لإنقاذ "ماء الوجه” جرّاء الإهانات التركية المُتكرّرة بل اليومية لهم عبر مطالبتهم بسحب قواتهم من منبج "غادروا فوراً... استعجلوا... أي حليف هذا الذي يبني على حدود حليفه جيشاً من 30 ألف إرهابي... تقولون لنا إلى متى تستمر عمليتكم في شمال سوريا؟ هل سألناكم عن عمليتكم في أفغانستان المستمرّة منذ 16 عاماً؟”.

ويمكن أيضاً ترتيب القصف الإسرائيلي لريف دمشق منذ أيام في الخانة نفسها. هو ليس مقدّمة للانخراط في الحرب وإنما رسالة للقول أن انتصار سوريا مع حلفائها لا يعني أن بوسعهم التحكّم بمصير المنطقة ورسم مستقبلها بمعزل عن "إسرائيل" ومصالحها. لكن هنا أيضاً من الصعب أن يُدخِل هذا القصف تعديلاً يُذكَر على موازين القوى وعلى استراتيجية سوريا وحلفائها بإعادة السيطرة على مجمل الأراضي السورية وبالتالي رسم الحل السياسي المُتناسِب مع نتيجة الحرب.

يطرح ما سبق، أسئلة كبيرة حول الاستراتيجية الأميركية البديلة في ما تبقّى من الحرب السورية. هل تشنّ واشنطن حرباً على مواقع أساسية بغية احتلالها، كما تتحدّث أنباء فرنسية، لإعادة خلط الأوراق وتغيير مسار الحرب؟ أم أنها ستكتفي بعمليات تكتيكية للضغط على مفاوضات الخروج من الحرب وضبط هذا الخروج تحت سقف لا يتعدّى سوريا إلى محيطها المباشر والمنطقة برمّتها؟ وهل يردّ المحور السوري الإيراني الروسي على التدخّل الأميركي وهل يردع التدخّل الإسرائيلي وكيف؟.

لا بدّ من قدر كبير من التهوّر والجنون الأميركي لشنّ حرب على سوريا واحتلال أراضيها والمخاطرة بمجابهة مع إيران وروسيا وربما تركيا، ذلك أن الاستبلشمانت الأميركي فضلاً عن الرأي العام لا يرغب بشنّ حرب جديدة يصعب تبريرها بحماية المصالح الأميركية الحيوية، هذا فضلاً عن أن الآثار السلبية لحروب أميركا في أفغانستان والعراق وليبيا لم تنحسر بعد في مخيّلة الأميركيين. ناهيك عن العلاقة السيّئة التي تربط ترامب بقسم أساسي من مراكز القوى الأميركية وبقسم وافِر من حلفائه الغربيين وهذا لا يجعل قرار الاشتراك المباشر في الحرب السورية ميسّراً.

بالمقابل يبدو خيار العمليات التكتيكية، الأقرب إلى الواقع معطوفاً على دعم بعض الجماعات السورية المعارضة بصواريخ أرض جو متطوّرة وبصواريخ تاو مضادّة للدبابات، وقد رأينا أثر هذه الصواريخ في تدمير الآليات التركية وفي إسقاط طائرة سوخوي روسية في ريف إدلب.

وعلى الرغم من تناسبها مع وقائع الحرب السورية فإن هذا النوع من العمليات التكتيكية يصعب ضبط مفاعيلها خصوصاً إذا ما قرّر الروس الردّ عليها في سوريا أو في أماكن أخرى، عِلماً أنهم امتنعوا عن الردّ على قصف قاعدتهم اللوجستية في طرطوس تارة، وفي حميميم تارة أخرى, وذلك في أواخر كانون الأول/ديسمبر وأوائل كانون الثاني/يناير الماضي فضلاً عن إسقاط السوخوي المُشار إليها أعلاه.

لا تطرح العمليات العسكرية التكتيكية الأميركية والإسرائيلية أيضاً مشكلة داهِمة على الأطراف التي تستعدّ للخروج مُنتصِرة من الحرب السورية، إلا إذا تسارع إيقاعها وباتت تُهدّد بتغيير مسار الحرب. الواضح حتى الآن أنها تُقابَل بالصبر الاستراتيجي، أو بالرد المحدود. فهي على خطورتها وإهانتها للمعنيين إلا أنها لم تحل دون تقدّم القوات السورية والحليفة في مختلف الجبهات وبالتالي تغيير خرائط الحرب على الأرض. فضلاً عن تقدّم هذا المحور على طاولة المفاوضات بل نقلها إلى نهاية المطاف عبر صوغ دستور سوري جديد وعملية سياسية على هامش وثائق جنيف الأول والثاني.

في هذا السياق، يمكن الرِهان على الدور التركي لكبح جماح واشنطن وتقسيم سوريا عبر فصل كردها عن الدولة السورية المركزية. هذا الرهان ليس رغبوياً، ذلك أن الأتراك كانوا على الدوام لا يطيعون الأطلسي، إذا كان الأمر يتعلّق بمصالح بلادهم العُليا. هم احتلوا قبرص التركية ومازالوا ضد رغبة الأطلسي ورفضوا طلب واشنطن الدخول من أراضيهم لاحتلال العراق عام 2003، ولم يتردّد أردوغان عن التلويح لترامب في المؤتمر الإسلامي الأخير في إسطنبول بالقول: القدس خطر أحمر يا سيّد ترامب.

لا يخرج الموقف الأخير للولايات المتحدة الأميركية عن سيرتها البهلوانية في سوريا. فقد وعدت بإسقاط النظام السوري ثم تراجعت، ورسمت خطاً أحمر لتدمير هذا النظام ثم تراجعت عنه، وأنشأت غرفاً لتنسيق العمليات العسكرية ضد الجيش السوري ثم أهملتها، وجمعت أكثر من مئة دولة بزعم مساندة المعارضات المسلحة ثم تخلّت عنها لمحاربة داعش، وعرضت من بعد على لسان وزير خارجيتها جون كيري التفاوض مع الأسد ثم تراجعت عن العرض. وتواصل الإيقاع البهلواني الأميركي في عهد ترامب حتى خُذلان كرد الشمال السوري. هل فات الأوان على دور أميركي في تغيير مسار الحرب السورية؟ الراجِح أنه فات منذ أن قرّرت واشنطن، بخلاف موسكو، تجنّب الغرق في المستنقع السوري وبالتالي اعتماد إجراءات تكتيكية بلا آفاق استراتيجية واضحة.