تركيا و’المستنقع الكردي’ في شمال سوريا
سركيس أبوزيد
أثبتت الأحداث الماضية أن الكرد هم من أبرز ضحايا "لعبة الأمم". ولن يكون مصير كرد سوريا أفضل مما لقيه كرد العراق بعد التخلٍي الأميركي عنهم. سقوط كركوك أعلن سقوط مشروع الدولة الكردية في شمال العراق. وسقوط عفرين سيعلن سقوط مشروع الفدرالية الكردية في شمال سوريا.
"الكابوس" الكردي هو السبب المباشر في التباعد أكثر فأكثر بين ترامب وأردوغان، وفي التقارب أكثر فأكثر بين تركيا وكل من إيران وروسيا.
كرد سوريا وقعوا في خطأ التقدير، وذهبوا بعيدا في الاعتقاد أن دورهم في التصدي لـ"داعش" أعطاهم نوعا من الحصانة، واعتقدوا أن القرار الأميركي بالبقاء في سوريا وربط سوريا ما بعد "داعش" بخطة احتواء إيران وتغيير النظام يوفر لهم حماية لأنهم يشكلون حاجة لواشنطن التي ليس لها من حليف أفضل منهم على الأرض السورية. بالإضافة إلى استقوائهم بالموارد النفطية والمالية الكبيرة التي حصلوا عليها بعد السيطرة على حقول نفطية ومنشآت استراتيجية في دير الزور ووادي الفرات، وهو ما جعل مشروع أي كيان كردي قابلا للحياة اقتصاديا. كما فسّروا خطأ اتجاه الأميركيين الى إقامة قوة عسكرية عربية رديفة للقوات الكردية يصل تعدادها الى 28 ألف مقاتل وتحويل نهر الفرات الى خط حدودي مهمته منع القوات السورية من مهاجمة الكيان المزمع إنشاؤه، وبالتالي يكون هذا الجيش المنظم والمدرب أميركيا بمثابة حرس حدود لحماية مناطق الكرد..
لكن، تركيا كانت بالمرصاد للتطورات الجارية في الشريط الكردي الحدودي ولـ"التحولات المتعاظمة"، وكانت تتحيّن لحظة الانقضاض واختيار التوقيت المناسب لضرب مشروع التواصل بين أعزاز وجرابلس من جهة وعفرين ومنبج من جهة ثانية.
وقد توافرت الظروف الملائمة للتدخل عسكريا وفتح معركة عفرين بعدما ضمنت تركيا:
أولا- الضوء الأخضر الروسي، فعملية كهذه لم تكن ممكنة لولا موافقة موسكو، وهذا ما يصفه الكرد بالتواطؤ الروسي الذي تُرجم على الأرض بسحب وحدات روسية من عفرين باتجاه تل رفعت في ريف حلب، وإعلان الجيش الروسي أنه لن يتدخل في العملية التركية. كان من الواضح أن روسيا كانت أمام موقف حرج، فهي داعمة للكرد ومعنية بضمهم الى "مؤتمر سوتشي"، ولكنها في النهاية غلّبت مصلحتها في إنقاذ علاقتها مع تركيا، وهي تحتاج الى هذه العلاقة لإنجاح خطتها السياسية وللحؤول دون عودة تركيا مجددا الى الحضن الأميركي.
ثانيا- الإحجام الأميركي عن التدخل في هذه المعركة بحجة أن عفرين تقع خارج النطاق الكردي المشمول بالرعاية الأميركية، ولكن السبب الفعلي هو المسايرة الأميركية لتركيا حتى لا تندفع أكثر الى المحور الروسي - الإيراني، وحتى لا تخسرها كحليف إقليمي بعدما نجحت أنقرة في حشر واشنطن في زاوية الخيار بين الأتراك والأكراد.
ثالثا- السكوت الأوروبي باستثناء موقف رفع العتب من جانب فرنسا التي كان لها موقف مشابه إبان معركة كركوك. فبعد انطلاق الحملة العسكرية التركية في عفرين، كانت باريس السبّاقة الى دعوة مجلس الأمن للانعقاد للنظر بهذه المسألة، بينما كانت الأطراف الغربية الأخرى تطالب بالتزام ضبط النفس والتعبير عن القلق إزاء الضحايا المدنيين. فالأوروبيون يحتاجون الى تركيا في معركتهم ضد الإرهاب وفي احتواء ملف اللاجئين السوريين. كما أنهم معنيون، بعدم حصول فك ارتباط بين تركيا وحلف شمال الأطلسي.
استفادت تركيا من كل هذه العوامل والظروف واندفعت الى عفرين السورية الحدودية في عملية عسكرية استراتيجية لا رجوع فيها الى الوراء. لكن، الهجوم التركي افتقد الى "زخم الانطلاقة" وبدا في أيامه الأولى يسير بوتيرة بطيئة وخطى متثاقلة، فلم يحرز أي تقدم مهم أو اختراق نوعي، وحتى التلال الاستراتيجية التي سقطت في الأيام الأولى للهجوم تمت استعادتها على يد القوات الكردية.
هذا التباطؤ في الهجوم يعود بالدرجة الأولى الى عوامل وظروف ميدانية غير مساعدة أهمها:
- سوء الأحوال الجوية.
- طبيعة المنطقة الجبلية الوعرة في عفرين بخلاف المنطقة المنبسطة سابقا في جرابلس وأعزاز حيث تسهل مناورة الدبابات.
- المقاومة وإرادة القتال لدى كرد عفرين في تكرار لمعركة كوباني، مضافا إليها هذه المرة أن الكرد مزوّدون بسلاح حديث.
- عدم استخدام تركيا لسلاح الطيران بشكل مكثف في ظل وجود ضوابط دولية تدفع في اتجاه إبقاء العملية التركية تحت السيطرة.
هذه الضوابط الدولية من شأنها أن تقيد العملية العسكرية وتحدّ من اندفاعتها وترسم حدودا لها، وهي متأتية من جهتين أساسيتين:
١- من جهة الولايات المتحدة التي حضت تركيا على ممارسة ضبط النفس وإبقاء عملياتها محدودة جغرافيا وزمنيا.
٢- من جهة روسيا التي تشكل "العقبة الأساس" لأن لا وجود عسكري أميركي مباشر في منطقة عفرين، فلا يمكن لتركيا أن تشن عملية واسعة وجذرية من دون ضوء أخضر روسي.
خلاصة كل هذا الوضع، أن تركيا نالت عمليا "ضوءاً أصفر"، احتمال أن يتحول الى ضوء أحمر أكبر من احتمال تحوله الى ضوء أخضر، لأن الخطوط الحمر التي أحيطت بالعملية لا تسمح لتركيا بتحقيق أهدافها المعلنة، ولأن المناخ الدولي الإقليمي غير مؤاتٍ ويضغط عليها لإنهاء هجومها سريعا وتقديم تنازلات متدرجة، وتواصلت في الاستجابة لطلب روسيا بالاكتفاء بمحاصرة المدينة وعدم اجتياحها ووصلت الى إخراج "منبج" من جدول الأعمال التركي مع تمسك الأميركيين بها.
لكن، الروس والأميركيون يشعرون بأن ضغوط أردوغان بلغت حدّاً مربكاً، ولا يتوقّعون أن يلتزم بالحدود المرسومة له سواء في عفرين أو منبج، بل سيترك للقادة الميدانيين إمكان التوغّل وتجاوز الخطوط الحمر، لكنهم سيترقّبون تورطه، فهذه الحملة لن تحلّ مشكلته الكردية في سورية، ولا في داخل تركيا وهو الأهم والأخطر.