عام سقوط "داعش": تحولات عسكريّة كبرى...و"ستاتيكو" سياسي
صهيب عنجريني
شهد العام المنصرم حدثاً مفصليّاً في سوريا، هو تقويض الوجود العسكري لتنظيم «داعش». ما أسفر في الوقت نفسه عن ازدياد المساحة الخاضعة لسلطة الحكومة السورية، وازدياد رقعة سيطرة «قسد». في مقابل انحسار كبير لمناطق سيطرة المجموعات المسلّحة وانخفاضٍ ملحوظٍ لتأثيرها العسكري. على أنّ التطورات العسكريّة لم تواكب بتحول يُذكر في المشهد السياسي، ليبقى الملف السوري مفتوحاً على احتمالاتٍ كثيرة لا سيّما في شمال وشرق البلاد
تودّع الحرب السوريّة عاماً حافلاً بالتطورات الميدانيّة الفارقة، من دون أن يشكّل ذلك اختراقاً ملموساً في المسار الدائري للأزمة السياسيّة. وعلى الرغم من أنّ «لعبة التصريحات» أوحت غيرَ مرّة بوجود تحوّل هنا أو اختراق هناك، لكنّ مواقف اللاعبين المؤثّرين فعليّاً في المشهد ما زالت على الأرجح عالقةً عند عُقدٍ بعينِها (في ظاهر الصورة على الأقل).
وعلى نحو مماثل للسنوات الخمس الماضية بدا أنّ الجملة الأصلح لإيجاز صورة العام 2017 هي «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». ولا ينطبق ذلك على المجريات العسكريّة فحسب، بل يتعدّاها إلى مشهد الاتفاقات والهُدن والمؤتمرات. ففي حين بدت لقاءات «جنيف» أقرب إلى حلقاتٍ بلا أحداث مؤثّرة من مسلسلٍ باهت، نجحت لقاءات «أستانا» بإحداث أثرٍ واضحٍ على صعيد تضييق رُقعِ المعارك وخفض قعقعة السلاح.
ورغم الخروقات والتجاوزات التي طاولتها، سمحت اتفاقات «خفض التصعيد» بعمومها في توجيه البوصلة الأساسيّة نحو تقويض الوجود الملموس لسلطة تنظيم «داعش»، وإقصائه من الخارطة العسكريّة للبلاد.
وأفلح الجيش السوري وحلفاؤه في جني ثمارٍ عسكريّة كبيرة، لم تقتصر على تحرير مساحات شاسعة من قبضة «داعش» فحسب، بل تعدّتها إلى تحصيل متكسبات استراتيجيّة على حساب بقيّة المجموعات المسلّحة التي انخفضت قدرتها على تهديد مناطق سيطرة الدولة السوريّة على معظم الجبهات. وفيما كان تنطّع المجموعات المسلّحة لفتح معارك هجوميّة أمراً مألوفاً قبل عامين، ووارداً خلال عام 2016، صار الأمر في العام الأخير أشبه بمحاولات طارئة ومحكومة بالفشل مسبقاً أو بإحداث خروقات مؤقتّة في «أفضل الأحوال».
العام المنصرم كان مسرحاً لواحدة من أضخم المعارك على امتداد الحرب (إن لم تكن أضخمها) لجهة حجم رقعة المعارك، وهي معركة البادية السوريّة التي مكّنت الجيش وحلفاءه من استعادة السيطرة على مناطق في أرياف خمس محافظات (حمص، حماة، حلب، الرقّة، ودير الزور)، وصولاً إلى الحدود الجنوبيّة مع الأردن عبر ريف محافظة السويداء.
وفيما استهلّت القوات السورية العام المنصرم مُدافعةً عن وجودها في دير الزور التي تعرّضت منتصف كانون الثاني لهجوم كبيرٍ شنّه «داعش»، انهمكت في الربع الأخير من العام بفك حصار المدينة ثم تحريرها وكسر «الخطوط الأميركيّة الحمراء» في ما يخص مدينتي الميادين والبوكمال (ريف دير الزور الجنوبي). وكان الوصول إلى الحدود العراقيّة واحداً من أبرز إنجازات الجيش وحلفائه ومفتاحاً لتحولات استراتيجية في مشهد الحرب برمّتها.
لكنّ «الخطوط» المذكورة فرضَت وجودها في ما يتعلّق بالحقول النفطيّة شرق الفرات، بعد تفاهمات غير معلنة بين موسكو وواشنطن، ضمنت الأخيرة بموجبها لـ«قوات سوريا الديمقراطيّة» (الذراع البرية لـ«التحالف الدولي») السيطرة على اثنين من أكبر موارد الطاقة في سوريا: حقل العمر النفطي، وحقل كونيكو الغازي.
وحصدت «قسد» بدورها نصيباً كبيراً من «تركة داعش»، لتوسّع مناطق سيطرتها بصورة غير مسبوقة. وأفضى خروج التنظيم الإرهابي من المعادلة الميدانيّة إلى وضع العلاقة بين دمشق و«قسد» أمام امتحانٍ حاسمٍ لا تبدو الخيارات فيه كثيرة بل تكاد تقتصر على اثنين: حرب طاحنة، أو اتفاق تاريخي. ويمثّل ملفّ «قسد» ومناطق سيطرتها واحداً من أبرز العناوين الإشكاليّة لعام 2018، مع ما ينطوي عليه هذا الملف من احتمالات شائكة تزيد من تعقيدها تهديدات أنقرة المستمرّة باستغلال قضيّة «الخطر الكردي» لتوسيع رقعة المناطق التي تحتلّها تركيّا في الشمال السوري.
ويُضاف إلى ذلك التأثير الأميركي الكبير النابع عن «تحالف» ما زال (حتى الآن) يبدو متيناً مع «قسد»، ويضمن نفوذاً أميركيّاً كبيراً في مساحة تقارب ثلث مساحة البلاد «محميّاً» بحضور عسكري مباشر تُعبر عنه قواعد أميركيّة ومطارات. وإلى جانب ملف «قسد» يفرض ملفّ محافظة إدلب نفسه على المرحلة التالية، مع الأخذ في عين الاعتبار حجم التعقيدات (الميدانيّة والسياسيّة) لهذا الملف.
وعلى امتداد السنوات الثلاث الماضية تحولت المحافظة الشمالية بشكل تدريجي إلى ما يشبه «مصفاة» للحرب.
ورغم الحراك المستمر في إدلب، غير أن ظروف «المعركة الكبرى» لا تبدو ناضجةً فيها بعد، بفعل عوامل عدّة من بينها عدم وضوح النوايا الأميركيّة بشأنها. وتحضر في إدلب معظم المجموعات المسلّحة التي لم تخرج من «الخدمة» بعد، بما فيها مجموعاتٌ مصّنفةٌ إرهابيّة على مستوىً دولي («جبهة النصرة»، «الحزب الإسلامي التركستاني»، «تنظيم القاعدة»).
ويبدو حضور «الإرهاب» فيها صالحاً للتحول إلى حاملٍ لأيّ انخراط أميركي مباشر. علاوة على ذلك، يبرز سعي أنقرة إلى تعقيد المشهد عبر ربط ملف إدلب بملف عفرين (وربمّا منبج).
وأفلحت أنقرة في ضمان موطئ قدم مباشر لها في إدلب من دون إطلاق طلقة واحدة، لتضمّها بذلك إلى مناطق «درع الفرات» في ريف حلب الشمالي، بوصفهما مُنطلقين لتأُثير جوهريّ في السيناريوات المستقبليّة. ووسط هذه المعمعمة، حافظت «المعارضة السياسيّة» على كونها «الحلقة الأضعف» في المشهد بأكمله.
ولم يخرج أداء الكيانات المعارضة في خلال العام المنصرم عن المعهود، واستمرّ أشبه بمرآة تعكس تأثير الرغبات الإقليميّة والدوليّة فحسب.