تركيا من داعمة للارهاب الى ضامنة... هل ستقضي حقاً على صناعتها في ادلب؟
الدور التركي الجديد في الأزمة السورية يطرح العديد من علامات الإستفهام لما كان له من باع طويل في خلق وتغذية الأزمة السورية وامدادها بالمسلحين والسلاح على مدى الأعوام الماضية. فهل تُشكّل إدلب الفرصة الأخيرة لتركيا لتحقيق بعضا من أطماعها في الشمال السوري بعد سقوط رهاناتها في حلب إثر الإنتصار الاستراتيجي للجيش السوري وحلفائه؟
بعد توتر علاقاتها مع حليفها الأميركي، مضافا اليه تعاظم قوة الأكراد في سوريا والعراق، كانت محادثات أستانة الأخيرة حيث شهدت إنعطافا جديًا في الموقف التركي؛ من دولة داعمة وممولة لجماعات إرهابية بهدف إسقاط النظام السّوري، إلى ضامنة لمناطق خفض التّصعيد بهدف تثبيت وقف إطلاق النار وتحقيق الهدنة.
وبناءً على النّتائج التي أفضت إليها المحادثات، بدأ الجيش التّركي، الإثنين الماضي، بأنشطة إستطلاعية تندرج في إطار التّحرك العسكري الذي ستجريه القوّات التّركية في إدلب، بالتنسيق مع باقي الدول الضامنة لمحادثات أستانة (إيران وروسيا).
تحوّل الموقف التّركي
مما لا شكّ فيه أن الإنعطاف الكبير في سياسة تركيا تجاه الداخل السّوري كان قسريًّا. فتعرّضها لعدّة خيبات إقليميًّة ودوليًّة متتالية أوصلها الى حائط مسدود وأجبرها على التراجع. ومن أبرز هذه العوامل:
أولاً: فشل رهاناتها ومساعيها في بداية الأزمة السّورية على سقوط النّظام خلال 6 أشهر كحدّ أقصى، حيث كانت تركيا ترى أن سوريا، في مرحلة "ما بعد الأسد”، ستشكّل حديقة خلفية لها. إضافة الى ظنّ تركيا، أنه وبدعمها للمجموعات المسلحة، سيكون لها اليد الطولى في سوريا. بيد أن ما حصل في الواقع، أي الهزيمة التي مني بها هؤلاء المسلحين - المُراهن عليهم - أمام الجيش السوري والقوى الحليفة والتي كان آخرها في منطقة حلب، كانت الضربة القاضية للمشروع التركي الحُلم.
ثانياً: مع مرور الأزمة، تأثرت تركيا على الصعيد الإقتصادي من أعداد اللاجئين السّوريين داخل الأراضي التركية (الذي يقدّر عددهم بثلاثة ملايين). كذلك الأمر من تمدُّد تنظيم "داعش" وتأثيره حتى انتقاله لاحقاً الى تنفيذ عمليات داخل تركيا بُعيد الخلافات التي ظهرت بينه وبين تركيا في بعض القضايا.
ثالثاً: توتّر العلاقات التركيّة مع حليفها الإستراتيجي الولايات المتحدة الأميركية. والجدير بالذّكر، أن هذا التّوتّر نشأ عقب الإنقلاب التركي الفاشل لتيار فتح الله غولن؛ بحيث أن تركيا وجّهت أصابع الإتّهام الى الولايات المتّحدة بدعمها لهذا الإنقلاب. وما زال هذا التّوتر يتصاعد مع مطالبة أنقرة واشنطن تسليم غولن الى السّلطات التّركية واستمرار تجاهل واشنطن لها. كذلك، فإن دعم الولايات المتحدة الأكراد في سوريا والعراق يعدّ بمثابة الصّفعة لتركيا، حيث تعتبر الأخيرة أن "قسد” الكردية في شمال سوريا إرهابية، كما أنّها تندد بالإنفصال الكردستاني عن العراق. وفي هذا السياق، يتوجّب ذكر أن الأكراد يشكّلون التّهديد الأكبر لتركيا.
أسباب وأهداف الدخول
هذه العوامل التي ذكرت أعلاه، ساعدت تركيا للتّوصّل الى هذا الإستنتاج المتأخر، أي بعد ست سنوات من الحرب، أنّ لا خبز لها في السياسة التي كانت تتّبعها. ومن هنا جاء قرار الدخول المصيريّ بعيد محادثات أستانة.
يجب الأخذ بعين الإعتبار أن تركيا لا تقدم على أي خطوة عسكرية إستراتيجية في الداخل السّوري بدافع كرم الأخلاق. خاصة أن التدخل في إدلب، ليس له مبرّر في الداخل التركي، كونه منضو تحت هدف حماية أمن منطقة من جماعات كانت تدعمها بالأصل. إلّا أن هذا الدخول سيحقق لتركيا جزءاً من مكاسب فشلت في تحقيقها سابقا في حلب.
بالنسبة للأسباب التي أعلنت عنها تركيا كمبررات لهذه العمليّة، وهو القضاء على تهديد "هيئة تحرير الشام” ومنع تسلل المنظمات الإرهابية إلى تركيا، فقد اشارت صحيفة تركيا بوست، ان من المبررات ايضا ردع أي موجة هجرة تعبر الحدود التّركية. حيث تشير الإحصائيات إلى وجود قرابة 3 ملايين لاجئا سوريّاً يعيشون حالياً داخل محافظة إدلب، وفي حال نشوب أي اشتباك، فإنّ الجهة المرجّحة لهؤلاء ستكون تركيا بلا أدنى شك، ما يعني تكبّد أعباء هؤلاء إضافة الى اللاجئين الحاليّين على أراضيها؛ وبالتّالي، تشكيل ثقل على الناحية الإقتصادية والأمنية في تركيا.
الكلّ يعلم أنّ قرار الدخول لا يقتصر على هذه الأسباب المعلنة، هناك أهداف أخرى، مثل عدم رغبة تركيا بأي تواجد للأكراد خاصة وحدات حماية الشعب الكردي التي تتمركز الآن في منطقة عفرين. وبالتالي، فإن تواجد القوات التركية في إدلب يكون بمثابة تطويق لهذه المنطقة، أي منع تمدد الأكراد من عفرين باتجاه ريف ادلب الغربي وصولا الى البحر المتوسّط (ما كان يطمح اليه الأكراد). وبذلك، منع قيام كيان كردي مستقل في الشمال السوري.
إضافة الى ذلك، وبعد فشل الرهان على المسلحين، تريد الحكومة التركية إظهار من خلال هذه العملية، سواءً على الصعيد الخارجي أو الدّاخلي، أنها ما زالت تمتلك قوة مؤثرة، وأنها دولة صاحبة نفوذ تحدّد مسار الأزمات الحاصلة؛ وإن كان عبر التنسيق مع روسيا وإيران.
أما الهدف الغير مباشر، فيمكن الحديث عن نصر جديد يبحث عنه أردوغان يستطيع استخدامه كورقة رابحة في الإنتخابات المقبلة عام 2019. بحيث أنه في حال استطاع تحقيق أهدافه المرجوة من هذا الدخول، سيتشكّل لديه مادّة زخمة يقدّمها للناخب التركي وبالتحديد القومي؛ خاصّة بعد الحديث عن إجراء الإنتخابات في وقت مبكر، أي العام القادم. هذه الخطوة ليست بجديدة، إذ استغلّ أردوغان العام الماضي في الإستفتاء على الدستور، قضية درع الفرات. فاستطاع تواجُد القوات التركية في مدينة جرابلس أن يؤثر بشكل كبير على نسبة الأصوات لصالح أردوغان. وهذا يشير أن الأخير يريد الظهور بهيئة البطل القادر على حماية مصالح تركيا، وتحقيق الأمن والإستقرار في المنطقة.
تكمن أهمية منطقة إدلب في موقعها الإستراتيجي الذي يتوسّط حلب وحماه واللاذقية، اضافة الى الحدود التركية. وهو ما يجعلها منطقة محفوفة بالأخطار، نظرا لكثرة انتشار التنظيمات والفصائل فيها، كمّاً ونوعاً. هذا الأمر استدعى استراتيجية هادئة للدخول، وهذا الأسلوب السلس ضمن إطار التّسويات لن تتقنه إلا تركيا نظرا لتعاملها السابق مع كل الفصائل المتواجدة تقريبا. واللافت أن الوفد التركي الذي دخل منذ اليوم الأول، كانت تُقدَّم له الحماية من هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا)؛ وهذا ما يظهر أن الأتراك كانوا على تواصل مع قيادات الهيئة على الأقل في كثير من مناطق ادلب.
من هنا يمكننا الحديث عن الفصائل المتواجدة داخل ادلب والمدعومة بشكل مباشر من تركيا؛ مثل فصائل غرفة الموم (معظمها من الجيش الحر)، بالإضافة الى "أحرار الشام” و"فيلق الشام” اللذان يدوران في الفلك التركي بشكل مباشر. أما تنظيم "هيئة تحرير الشام” المتواجد بشكل أكبر في إدلب، ما زال يشهد شرخا داخليا، من خلال تعدد المواقف تجاه تركيا بين مرحب للدخول وغير مرحب، وبالتالي بين مستعد لخوض معركة مع التركي وبين غير مستعد.
من هنا فان تركيا تسعى الى دخول سلس من دون صدام مسلح او حرب قد تستنزف قواتها فضلا عن احتمال لجوء آلاف النازحين إلى تركيا، ما يشكل عبئاً إضافياً عليها هي بالغنى عنه. لكن ذلك سيترافق مع ضجة إعلامية وبروباغندا دعائية لصالح اردوغان.
اذا الصورة تبدو واضحة بحسب بعض المراقبين، لا معارك مباشرة في الأفق، فكلا الطرفين غير راغب وغير مجبر. إلا أن تركيا، في حال تمّ خرق هذه التسويات من قبل الجماعات المسلحة، لن تتوانى عن ضرب معاقلهم. والجدير بالذّكر أن بإمكان تركيا الإعتماد على بعض الفصائل الأخرى الغير متواجدة في إدلب والمنتشرة في أريافها.
في المرحلة المقبلة بحسب محللين، فان أمام تركيا تحديا كبيرا يكمن في تحمّلها الأعباء المالية لدخولها، مع الأخذ بعين الإعتبار صعوبة تبرير مثل هكذا تدخل في الداخل التركي. فمعركة درع الفرات التي قامت بها تركيا في آب العام الماضي، كانت بهدف الحفاظ على المصالح القومية للدولة ضد داعش والجماعات الكردية على حد سواء. وعلى هذا الأساس، حشدت حكومة رجب طيب اردوغان الدعم خلفها. لكن المعركة ضد "هيئة تحرير الشام” في ادلب، ليس لها مبرر، خاصة وانها كانت مدعومة من تركيا وانها غير متورطة في هجمات بالداخل التركي. ومثل هكذا امر ستستغله المعارضة لصالحها، والتي ما زالت توجّه العديد من الإنتقادات لحزب العدالة والتنمية متهمة إيّاه بإيصال الأمور الى ما هي عليه من أزمات اقتصادية، ومندّدة أيضا بأعداد القتلى في صفوف الجيش التركي في عملية درع الفرات آنذاك والتي وبلغت 68 قتيلا في عملية محدودة.
الجدير بالذكر أيضا تواجد الأكراد في منطقة عفرين المحاذية لإدلب، حتى أن التواجد التركي في دار عزّة، هو بالقرب من مناطق احتكاك مع وحدات حماية الشعب الكردي؛ وبالتالي تبقى الأمور مرشحة للكثير من الأخطار.
أما التحدي الأخطر، هو في حال إبقاء تركيا قواتها في إدلب بعد الانتهاء من العملية. وهذا ما لمح له رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم في اجتماع برلماني لحزب العدالة والتنمية الثلاثاء الماضي، حيث صرّح أن تركيا تستهدف أيضا تأسيس نقاط سيطرة في إدلب لنشر المزيد من القوات في المستقبل ( وكالة الاناضول). في هذه الحال، سيعدّ البقاء غير مرغوب وغير مشروع بالنسبة للحكومة السورية وحلفائها، وسيتم اعتبارها من قبل الحكومة السورية كقوات احتلال، وستتجه الأمور الى المزيد من التعقيد.
المنار