في ما يتعدى تيران وصنافير لؤي توفيق حسن * " لا شيء أفظع من نشاط بدون رؤيا
توماس كارليل – (كاتب ومؤرخ إسكتلندي)
اللافت في النقاش الدائر في مصر حول جزيرتي صنافير وتيران أنه يتمحور حول الجزء القانوني من المشكلة. ومع ان هذا الجزء حمّال لأوجه كثيرة وله نقاشه الخاص ولكن يجب أن لا يطغى على الجانب الجيوسياسي الذي يبدو الأكثر أهمية لأنه الأكثر إلحاحا بحكم ما تواجهه مصر او قد تواجهه في المستقبل. لكن المؤسف ان تكون في مصر نخب وجمهور غير قليل يحصر مقاربته للأمر من الزاوية الحقوقية وحسب. لفتني احدهم وهو بدرجة نائب في مجلس الشعب المصري وصف انكبابه على دراسة ملفات الجزيرتين بـ "المذكرة"!! ، فيما أمر هويتهما يتراجع إلى مرتبة أدنى أمام الأسئلة الصعبة التي غابت في مقاربة الأمر.
لماذا ظلت هاتان الجزيرتان حتى الأمس القريب مثل اللقيط تتركهما السعودية لمصر، ومصر تتصرف بمصيرهما في الحرب وفي (السلم)؟ ولماذا الآن بالذات انتعشت الوطنية السعودية ونفضت عنها غبار السنين؟ ولماذا لم تطرح السعودية استردادهما من قبل، وخلال مباحثات كمب ديفيد كي لا تشملهما الاتفاقية أو بعدها يوم استعادت علاقاتها مع مصر مبارك وكانت علاقة البلدين سمناً على عسل؟ لماذا سكتت السعودية طوال هذه السنوات والجزيرتان مشمولتان بالمنطقة (ج) المعزولة من السلاح؟ وبهذه الحالة تكون مصر قد تصرفت بما "تشغل" وليس بما "تملك ". فلماذا سكتت السعودية عما تطالب به الآن بوصفها (المالك)؟. هذا السؤال الأخير نضعه أمام بعض المصريين الذين طغت عليهم طيبتهم إلى حد التصور أن تنازل مصر عن الجزيرتين هو سيناريو مُعد مع السعودية يتيح للأخيرة حرية التحكم بمدخل خليج العقبة فتحاً وتسكيراً بوجه "اسرائيل" باعتبارها غير ملزمة "بمعاهدة سلام" !!. تصور ساذج! فمنذ متى كانت السعودية وعبر تاريخها رأس حربةٍ في مقارعة "اسرائيل"؟. بل لعل مفتاح الإجابة عن كل ما سبق ينطلق من حرص السعودية ومنذ ظهور القضية الفلسطينية على ان لا تكون على تماس مباشر بها، وهذا سر تنازلها عن الجزيرتين كونهما قد تتيحان احتمال الصدام مع "اسرائيل" . مذكرين بأن المدخل لحرب 1967 كان في إغلاق مصر لمضائق تيران في وجه الملاحة الاسرائيلية اثر سحبها للقوات الدولية في ايار/مايو 1967 .والشيء الذي يجب ان لا يسقطه بعض المصريين من ( حسني الظن) ان السعودية حرصت قبل نكبة فلسطين عام 1948 على اخذ موقف غير عدائي من إقامة (الوطن اليهودي الموعود)، جاء ذلك في تعهد الملك المؤسس عبد العزيز لمندوب بريطانيا برسي كوكس بتأييده إقامة "دولة لليهود المساكين في فلسطين" على حد وصفه!. وما يجب ان يعرفه الغافلون ان السعودية كانت الأولى في المنطقة في بناء علاقات استراتيجية مع امريكا وهذا منذ عام 1942. وقد جرى تطويرها مع السنين، ومن تجلياته فتح اقنية اتصال مع "اسرائيل" وصولاً إلى تحالف مستتر ينتظر المدخل المناسب لإشهاره، ومثل ما كانت مضائق تيران مدخلاً لحرب 67 ستغدو باباً لتظهير العلاقة المستترة منذ عقود بين "اسرائيل" والسعودية بداعي " تنظيم وضبط حرية الملاحة" في خليج العقبة بحكم الوضع الجديد. أوبمعنى أخر فإن السعودية هي التي ستلج (المجال المغناطيسي) لأتفاقيات "كمب ديفيد" من بوابة مضائق تيرانK مدعومة بخلفية علاقاتها (الطيبة) مع دولة الكيان الغاصب، لا بل تقاطع استراتيجي يبدأ من المخاوف في (تمدد النفوذ الأيراني) على حد تعبيرهما، ضرب محور المقاومة – او ما يسمونه بمحور ايران - دمشق -حزب الله – ، فيما القاصي والداني يعرف حجم الأموال التي دفعتها السعودية في حربها على سوريا والرجال الذين ارسلتهم ليعيثوا فيها فساداً.
أسئلة
بعد ما سبق هنالك سؤال يلحّ: ايهما ارجح عند السعودية بالعقل البارد وحيث المصالح وموازين القوى، مصر أم "اسرائيل"؟ لو جاز لنا ان ننحي التاريخ جانباً لما جاز لنا ان نتجاهل الحاضر، والذي يشهد ان علاقة البلدين كانت مثل موج البحر، وكل ذلك في إطار خطة سعودية تستغل فقر مصر للي ذرعها!. ان السعودية لم تكتفِ بترك مصر تترنح بازماتها الاقتصادية دون ان تمد يدها لتنتشلها منها كما يقتضي الواجب القومي والديني، فاقتصرت مساعداتها على المعونات السطحية!، اشبه بالأمصال تبقي المريض على قيد الحياة ولكن من غير استئصال العلة!؛ وهكذا لتغدو مصر بالمحصلة نصف ظمئة.. نصف جائعة.. ضعيفة تتوسل أية حكومة فيها إطعام شعبها. وبالتالي تحويل هذ البلد الكبير بمخزونه البشري والحضاري إلى تابع للبترودولار!، ولا أدلَّ على سوء النوايا حيال مصر إلا الخبث في تمويل السعودية "لسد النهضة" الأثيوبي .
المفارقة أن هذا السد كان مصمماً على ان يحجز 11 مليار متر مكعب، غير انه جرى توسيعه وتكبيره كي يستوعب 74 مليار مترمكعب، وهذا بالرغم من كل الاعتبارات الفنية والهندسية التي لا تبرر قيام السد من أساسه!!. هذا السد له غاية وحيدة سياسية بامتياز وهي بالخط العريض: محاصرة مصر. وهنا علينا ان نعلم بان فكرة السد اسرائيلية امريكية ومنذ عام 1964. وان بناءه تم ويتم بايدي فنيين اسرائيليين!. المال سعودي والعقل صهيوني، إنها إحدى ذرى التقاطع بين الرياض وتل ابيب التي سبق ذكرها.
بعد كل ماسبق يحق لنا الاستنتاج ان إضعاف مصر هدف استراتيجي تشترك فيه امريكا و"اسرائيل" والسعودية . ربما يخالفنا البعض فيرى ما سبق أقرب إلى الاحتمال. حسناً أليس الاحتمال في السياسة شكلاً من اشكال الفرضيات الضرورية لبناء الاستراتيجيات. يعجبني بهذا الخصوص قولٌ للينين:"من يغلق باب الاحتمالات يسد بوجهه أفاق المستقبل". وقد فرط الساسة في مصر بالكثير في بيع مجاني منذ كمب ديفيد. وجاء حصاده فيما بعد شوكاً، وما زالوا يستسهلون تقديم المزيد من (الهدايا) لمن يتربص بهم !.