من اوباما حتى ترامب .. الجوهر في خيارات امريكا التي تضيق
لؤي توفيق حسن
يعتقد معظم الأطباء النفسيين الأميركيين في إطار الحملة على ترامب بأنه يعاني من مرض "اضطرابات الشخصية النرجسسية" حيث وجدوا بحسب المواصفات التشخيصية المعتمدة لديهم أن "الأعراض التسعة " لهذا المرض تنطبق عليه، ومنها انه شخصية استعراضية وبعضهم دعم وصفه بشرائط فيديو ترصّد سلوكياته.. لكن يظل الأخطر وصفه بـ "الشخصية المتقلبة والمتسرعه في اتخاذ القرارات"، حتى ذهب بعض اصحاب الاختصاص والعديد من الاعلاميين الى نعت ترامب بنعوت نافرة منها على سبيل المثال : "فاقد للأهلية"، "خطر"، .."متهور"، "جاهل استثنائي"، لكن اللافت جاء في وصفه بـ "المجنون والمختل عقلياً".
وحتى لو اعتبرنا أن هذه الصفات تنطوي على مبالغات وراءها مؤسسات القرار في أميركا أو الدولة العميقة الممثلة لشبكة مصالح اقتصادية وسياسية لا ترتاح لترمب إلا أنها "بروباغندا" أضعفت من هيبته، فكيف الحال بعد أن قيل عن ارتباط شخصيات بارزة في فريقه مع روسيا مما أدى لاستقالة مستشاره للأمن القومي مايكل فلين، وأحد اهم مستشاريه وصندوق اسراره ستيف بانون. ولعلنا ندرك حراجة موقف ترامب إذا صدق ما نسبته صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية إلى فلين من أنه عرض على مكتب التحقيقات الفدرالي ولجان الاستخبارات في مجلسي الشيوخ والنواب الادلاء بشهادته مقابل عدم محاكمته. مما يوحي بانه يملك معلومات ثمينة بخصوص الاتصالات مع روسيا ودورها في انتخابات الرئاسة وبما يطال الرئيس.
كل ما سبق يعني أن ترامب الذي جاء متمرداً على سياسات أوباما ورافضاً لمنهجيات المؤسسات الحاكمة في واشنطن قد وقع أسيراً في قبضة هذه الأخيرة. بل لعله بات في قفصها، وهذا ليس من باب التكهن بعدما رشح عبر وسائل اعلامية عن خطط جاهزة لعزله بالاتفاق مع نائبه. وبهذه الظروف بات القرار الأمريكي متفلتاً من يد الرئيس بنسبة كبيرة لصالح مستشارين يلبسون القفازات يتوثبون لدخول حلبة المنازلة مع إيران والتدخل في سوريا. وعلى هذه الخلفية افتعلت قصة غاز السارين ثم الحركات الاستعراضية للتوما هوك في مطار الشعيرات. لكن يبقى السؤال: ما هي امكانيات اميركا بالأساس حتى تنزلق في مواجهات اقليمية تجنبها اوباما، فيما قامت حملة ترامب على استنكارها؟
سيكتشف هؤلاء عاجلاً أو أجلاً ان أوراق اميركا في سوريا ومع الضربة الاستعراضية بصوارخ "توما هوك" غير مؤثرة من حيث المردود السياسي، وانها حتى الآن لا تؤهلها لتكون "شريكاً" في رسم مستقبل سوريا كما تشتهي الإدارة في واشنطن !!. أما التأثير النفسي للضربة بغية ترك انطباع بجدية أميركا في ملف الكيماوي فقد جاء الرد عليه سريعا من الصين بالإيعاز لحليفتها كوريا الشمالية باطلاق آخر طراز من صواريخها الاسترتيحية العابرة للقارات وبعضها من غواصات، تلاها تهديد من رئيسها كيم جونغ اون بضرب كوريا الجنوبية، الأمر الذي استدرج امريكا للرد بحشد غير مسبوق لاسطولها الباسفيكي حول شبه الجزيرة الكورية، ما ينذر بالشكل بحرب قريبة. حركةُ لم تلبث حتى سقطت مفاعيلها الردعية أو النفسية أمام ثبات كوريا الشمالية، وفي الرد على لسان الرجل الثاني في نظامها يونغ- هاي: "نحن مستعدون للردّ على حرب شاملة بحرب شاملة، ونحن مستعدون للرد على أيّ هجوم نووي بهجوم نووي على طريقتنا". بينما جاء تعليق الخارجية الأميركية باهتاً:"ينبغي للرئيس الكوري ان يتعقل" ما يكشف الحدود الضيقة لحرية الردع الاستراتيجي للولايات المتحدة، وهنا البراعة في الرد الصيني - والروسي بالتواتر- الذي أظهر أن العضلات الأميركية التي جرى استعراضها في مطار الشعيرات ليست اكثر من جلد مترهل منفوخ بـ"البوتكس" الذي لا يصلح إلا لترميم ما افسده الدهر !!
ربما ستمضي اميركا وقتا غير قصير لحل الاشكالية ـ المأزق، والمتمثلة في كيفية الحد من نفوذ ايران، والتمدد الروسي في المنطقة الذي بات في سوريا ثابتاً استرتيجياً، وذلك من دون ان تدفع اميركا كلفة خوض حروب اكتشفت عقمها من خلال تجارب الماضي، فيما حلفاؤها غير قادرين على ان يخوضوا بالإنابة عنها اية حرب، وأولهم "اسرائيل" وثانيهم السعودية.
الأولى التي وقفت عاجزة امام فصائل المقاومة في غزة، فكيف الحال في مواجه مع حزب الله؟ والثانية عجزت أمام مجموعات مسلحة من يمنيين فقراء، عراة، حفاة.. فيما هي تملك آخر ما انتجته ترسانة السلاح الأميركية، ولعل هذا العجز الفاضح قد دعا وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس لزيارة الرياض طالباً منها مصالحة القاهرة ولو برشوتها ببعض المساعدات المالية، في مسعى لتشكيل "حلف اطلسي عربي" سيبدو غير وازن من دون مصر. وعلى خلفية هذا، دعا الملك سلمان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لزيارة الرياض! . لكن حتى هذا المخرج تبقى حظوظه في النجاح محدودةً، ومصر في المبدأ غارقة في حرب شرسة مع الارهاب تهدد أمنها القومي بدرجة عالية وغير مسبوقة، ما يجعلها بحكم المصلحة على الاقل أقرب لروسيا وأكثر تعاطفاً مع سوريا، هذا فضلاً عما تكنزه مصر من خبرات وتجارب في علاقتها مع اميركا ومنذ ايام السادات عندما باعتها الأحلام الوردية مقابل انقلاب رئيسها على خيارات مصر عبد الناصر، فكانت النتيجة صفقة "كمب ديفيد" التي ترتب فيها فراغاً أمنيا ما جعل سيناء نقطة ضعف في أمن مصر القومي، حتى باتت وكرا للارهاب او الهاربين من العدالة، وهذا إلى جانب البؤس الاقتصادي حيث انقلبت الصورة من مصر البلد الواعد والنموذجي في التنمية إلى بلد منخور بالفقر مكبل بالديون والارتهان.. وهكذا حتى تجرأت عليها بلد مثل اثيوبيا لتضع يدها على حصة مصر من مياه النيل عبر "سد النهضة" وبدعم أميركي اسرائيلي وتمويل سعودي! فيما كانت خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي زعيمة افريقيا والعالم العربي .