بين «سوقية» ترامب و«نرجسية» أردوغان: الكبرياء الأميركي وصل مرحلة أكون أو لا أكون
فراس عزيز ديب
حدَّثنا التاريخ بأن «الدولة الأموية» كانت متراميةَ الأطراف، قوية ذاتَ مهابةٍ توالى الأمراء على حكمِها بأسلوب الخلافة العائلية حتى وصل إلى تولي شؤونهم «مروان الحمار».
تُجمع المصادر التاريخية على أن «مروان» كان قوياً، محارباً، وديمقراطياً لدرجةِ أنه ارتكب المجازر بمُعارضي الداخل، وصولاً إلى وضع حدٍّ لعدو الخارج، لكنه نسي أن القوةَ وحدها لا تكفي، فعصفت الحروب الداخلية بالبلاد، حتى أنهك «مروان» بقراراتهِ خزينة الدولة لتنتهي بقوّتها وجبروتها وانتهى هو هارباً بعد سقوط «أحلامه».
هل ما زلنا مصرين على أن التاريخ لا يكرر نفسه، وبمعنى آخر: هل لا نزال نعتبر أنه لا يمكننا أن نشرب من ذات ماء النهر مرتين؟!
أنهى رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان عملية التحول السياسي في تركيا نحو نظام رئاسي، لا يمكننا اعتبارَ انتصاره مفاجئاً، الأدق أن نسبة الـ«نعم» المتدنية هي التي كانت مفاجئة، وهذه النسبة المتدنية تعود بنا لما طرحناه نهاية آذار الماضي، بأن ما يهم ليست نتيجة الاستفتاء أياً كانت، بل ماذا بعد الاستفتاء؟ لكن حتى الفارق الضئيل الذي يدعم كلام المعارضة عن حدوثِ عملياتِ تزويرٍ يبدو أمراً هامشياً، إذ لنتخيل مثلاً أن دولةً كألمانيا تضم أكبرَ جالية تركية كانت نسب التصويت لمصلحة التعديلات كبيرة، هذا يعني أن أردوغان يعي جيداً معنى تهديداته للأوروبيين بما فيها «الحرب المنوية» التي طالب فيها الأتراك بإنجابِ عددٍ كبير من الأطفال لأنهم، حسب تعبيره، «مستقبل أوروبا»؛ هو كان يعي ما يملك من خزان بشري يغلبهُ التطرف الذي للأسف لم تعيهِ، ولن تعيهِ، التركيبة الأوروبية الحاكمة.
لا يختلف اثنان على أن التعديلات هدفت إلى إبقاءِ أردوغان في السلطة حتى العقد الثالث من هذا القرن، فالنظام الحالي الذي يدعون أنه من صناعة الانقلابين هو من جاءَ بهم للحكم طوال السنوات الماضية، وبالدستور ذاته حققت تركيا الطفرة الاقتصادية التي تُعتبر أحد أهم مقومات صمود «العدالة والتنمية» في الحكم، فلماذا التعديل؟ كذلك الأمر يثبت هذا التعديل حالة النفاق التي يعيشها هذا الأرعن، فهو كتب معلقاتٍ في هجاء النظام الرئاسي في سورية لأنه حسب زعمه «ديكتاتوري» على حين استمات بخطابه الفتنوي لتطبيقه في تركيا لأنه حسب زعمه «ضمانة للجميع»!
من جهةٍ ثانية فإن إعادة إنتاج نظام سياسي يختصر الدولة بشخص أردوغان يفتح أبواباً كانت تركيا في غنى عنها، لكنه سارع عملياً لإغلاق كل هذه الأبواب وبالأسلوب ذاته المبني على الكذبِ والنفاق والترهيب.
هو بدأ بإعادة التذكير أنه سيعمل لإقرار قانون الإعدام ليس فقط من بابِ الغطرسة بوجهِ الأوروبيين، لكنها رسالةٌ مباشرة لكل من سيفكر في التحرك ضد تزوير نتائج الاستفتاء بأن حبل المشنقة سينتظركم كما ينتظر من قررنا أنهم متورطون في الانقلاب الأخير.
أما الحديث عن الدعوة لاستفتاءٍ حول «الانضمام للاتحاد الأوروبي» فهو أشبه بالنكتة السمجة، إذ كيف سيُجري استفتاء على شيءٍ لا يمتلك قراره؟ الاستفتاء يجب أن يكون تالياً لإقرار اتفاق الانضمام بين تركيا والاتحاد الأوروبي كما فعل الفرنسيون مثلاً عام 2005 عندما صوتوا بـ«لا» لمصلحة الدستور الأوروبي، ولكي يظهر كذب أردوغان لنتخيل مثلاً أن الأتراك سيصوتون لمصلحة الانضمام، فكيف سيحقق لهم «العدالة والتنمية» ذلك دون موافقة الاتحاد الأوروبي ذات نفسه؟ هذه الأكاذيب المنمقة تشبه خطبَ «شيوخ الفتنة» الذين يبدؤون حديثهم بالاستناد إلى دراسةٍ علميةٍ ما دون أن يذكروا اسم هذه الدراسة أو من قام بها، البسطاء والمغسولة أدمغتهم يصدقونهم، وهو ما يجري حالياً في تركيا.
بعد الاستفتاء بدا الأمر وكأن المجهول وحده المنتصر، والقصة ليست مرتبطة باضطراباتٍ سياسيةٍ، نحن نتحدث عن بلدٍ مترامي الأطراف يرتفع فيه ترموستات الشحن العرقي والطائفي، ويمتلك أسوأ العلاقات مع كل الجوار، وقد لا ينفع التعامي عن الحقيقة والهروب كما فعل أردوغان نحو السخرية من أوروبا وادعائه قبل أمس ساخراً بأنها مريضة، فإن كانت أوروبا فعلاً مريضة فتركيا حالياً دخلت «الإنعاش»، فهل ستنفع الجرعة المنشطة التي أعطاها الرئيس الأميركي دونالد ترامب له عندما كان أول المهنئين بالنتيجة؟
لا يبدو أن حال ترامب يختلف عن حال أردوغان، كلاهما يتشارك الرعونة ذاتها، إذ يتابع الرئيس الأميركي سقوطه الحر بالسوقيةِ تارةً وبالأخطاء الإستراتيجية تارةً أخرى، وإذا كانت السوقية ليست بجديدة على «أبو ايفانكا»، لكنها حكماً عندما تكون بصورةِ رئيسٍ لدولةٍ عظمى فإن لها مدلولاتها. أما الأخطاء الإستراتيجية فهي صورة مكبرة عن غياب العقل في التعاطي الأميركي مع ما يجري في هذا العالم، وبمعنى آخر لا يزال العقل الأميركي يغط في سبات ما قبل الصعود الصاروخي لعالم متعدد القطبية، وإذا كانت ميلانيا ترامب قد «نكشته» قبل أمس وهو يغط في سباته العميق متناسياً تحية «السلام الوطني» فمن سيوقظهُ يوماً عندما يصل فيها إلى مرحلةٍ لا يجد سلاماً وطنياً أو اجتماعياً وربما اقتصادياً.
أرسل صواريخهُ لقصف سورية وخرج ليتحدث عن قصف العراق! أمر بإلقاء «أم القنابل» في أفغانستان لتقتل بالكاد 70 داعشياً، حتى هذا الرقم نفته داعش، ختاماً، شخص بدل وجهة نظره خلال أيام أربع مرات، فهل بات يتنافس مع الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند على شخصيةِ العام السياسية؟ لكن في الإطار العام لا يمكن النظر إلى كل ما يقوم به ترامب من هذا المنظور الساخر، لأن نتائج «غبائه السياسي» لن تكون محصورة في منطقةٍ ما، فكيف ذلك؟
بدا واضحاً أن ترامب كان جاداً بذهابهِ نحو الحرب على كوريا الشمالية، بل يمكننا القول إن تحقيقَ ضربةٍ ما لمواقع القوة الكورية ما زالت على رأس أولوياته، لكن بكل الأحوال هو بات في موقفٍ محرج، ويضيِّق من خياراته، إن نفذ تهديداته ولو بعد حين، فسيلقى رداً قاسياً وهذا بات واضحاً ليس فقط من خلال التحذيرات الكورية، لكن حتى من تحذيرات «أصدقاء واشنطن» ذات أنفسهم لها، أما إن انكفأ على تهديداته فإن هذا الأمر سيعني حكماً أن الهيبة الأميركية على المحك، وهو ما لن يمرره «ترامب» بهذه السهولة، لكن لا تزال هناك موانع كثيرة من قيامه بهذه المغامرة، في مقدمتها يأتي الانقسام في المعسكر الأميركي ذات نفسه، فاليابانيون والكوريين الجنوبيون حكماً، لا يحبون هذا الأمر ولو ضمنياً، أما في الاتجاه المعاكس فتأتي في المقدمة الصين، وتدرك هذه الدول المتجاورة حقيقةً مهمةً هي أن أحد أهم نقاط القوة الأميركية أنهم قادرون على إشعال النار في أي منطقة في العالم، دون الخوف من الاحتراقِ بها، باعتبار أن الإمبراطورية المعزولة بعيدة عن تبعات كهذه، فيما سيكونون هم المتضرر الأكبر.
النقطة الثانية أن الأميركي كان دائماً عندما يعجز عن ضرب «العدو» بشكلٍ مباشر فهو يسعى إلى ضرب «صديق عدوه» إن كان بما يمثل من حديقةٍ خلفية أو صديقٍ وفي، هذا الأمر تم استخدامه مع الروس عبر أوكرانيا أولاً وسورية تالياً، ربما أن الصينيين تنبهوا لهذه الفرضية بأن الهدف هو أبعد من توجيه ضربة للكوريين، لتتضح الفكرة أكثر فإن فرضية توجيه ضربات محدودة لكوريا بغية لجم اندفاعاتها ليس مجدياً، لأن هناك جهلاً بمراكز القوة أولاً ولأن دولة كهذه بنت قوتها بجهود أبنائها لا يمكن أن تكون قوتها متركزة في منطقة ما، حتى إن الصينيين حاولوا إعطاء «ترامب» مبادرة حسن نية في التصويت على مشروع القرار الغربي بحق سورية بما يتعلق بـ«خان شيخون» إن كان بحديث المندوب الصيني الذي بدا تصالحياً، أو بعدم استخدام الفيتو لمنع القرار وترك الروس وحيدين، لكن عليهم أن يعوا أن الأميركي لا يتعاطى بحسن النيّات، وأن ضرب كوريا هو مقدمة لاهتزاز الصين، لأنها الهدف الأهم اقتصادياً لرجل الأعمال دونالد ترامب؛ فماذا ينتظرنا؟
سيواصل ترامب كما أردوغان سياسة خلق الاضطرابات في المنطقة بطريقة تبدو نوعاً ما أكثر رعونة، تحديداً أن الكبرياء الأميركي الآن بات في مرحلة اهتزاز بل تعداه ليصل إلى مرحلة أكون أو لا أكون، هنا علينا العودة للمقدمة ونقول:
تاريخياً هناك من سوّغ نعت «مروان» بـ«الحمار» تارةً لأنه محاربٌ صبور، وتارةً لأن «المئة سنة» عند العرب تُسمى حماراً؛ وهي كناية عن عمر «الدولة الأموية» التي عاشت مئة عام وكان «مروان» آخر حكامها، كلا الروايتين تبدو تجميلاً بدائياً لهذه الشخصية، ولو كنا واقعيين لقلنا:
علمنا التاريخ أن انهيار الدول من الداخل يحتاج حكماً إلى حكامٍ على شاكلةِ «مروان الحمار»؛ ترامب أم أردوغان لا تفرق، جاهل من لا يتعلم من التاريخ، فقط انتظروا.