الدولة السورية والدولة الأمريكية العميقة.. وجهًا لوجه
ميشيل كلاغاصي
لم يتأخر دونالد ترامب ليُلحق بمقعد الرئاسة الأمريكية هزيمةً وفضيحةً كبرى جراء العدوان الصاروخي ومسرحية كيماوي خان شيخون، فتحول معها من رئيس إلى شبحِ رئيس، ومن ممثل نجم إلى كومبارس بديل، بعد هزيمته وانصياعه نحو أداءٍ تكتيكي منضبط تجاه ما تسمى "الدولة العميقة"، كنتيجةٍ لضعف خبرته السياسية، فكشف ظهيرتها، وحوّلها نحو المواجهة الحقيقية والمباشرة مع الدولة السورية.
مئة يوم كانت كافية لإحراج وإخراج البيت الأبيض والخارجية والرئيس من غرفة الحكم والقيادة الحقيقية - الفعلية، ما أفقد الدولة العميقة العديد من أوراقها وحدّ من قدرتها على المناورة، وحرية الحركة وإخفاء النوايا، ووضعها مباشرةً أمام إحتمالات مواجهة الفوز أو الهزيمة، وبدا كمقامر رمى بكل أوراقه برمية واحدة – Soldes، وأبعد نفسه عن صفة المسؤول والمتحكم بالقرار الأمريكي، وأصبح من المهم تتبّع تصريحات ومواقف عضوٍ في الكونغرس أو ضابطٍ في البحرية أو باحثٍ أو إعلامي...إلخ، ممن يُعتبرون أساسيين وفاعلين في صياغة سياسة الدولة العميقة، والتي تقلصت وتضررت مساحة تشكيلها وصناعتها للقرار الأمريكي بفعل أدائه الأرعن، وانحصرت بوزارة الأمن الوطني والأجهزة والإدارات والمكاتب التابعة لها.
لقد خسر ترامب والدولة العميقة مساحةً وهامشًا عادةً ما يُترك للرئيس، يخوله أن يختار بموجبها بعض رموز إدارته ورجالاته التي تعمل معه، وتشكل فريق حكمه، وبات عليه أن يُعوض مقعد الرئاسة الخسائر السياسية التي ألحقها به، ويسعى لتعويضها بفضل براعته المفترضة كتاجر ورجل صفقات، هذا إن لم تحمله الأوهام والأحلام بعيدًا عن هلوساته واستعراض عضلاته المفترضة، ويبقى السؤال كيف سيتعامل العالم مع "فخامة" شبح الرئيس، خلال الخمسة وأربعين شهرًا المتبقية لانتهاء ولايته، مع افتراضية بقائه دون مفاجآت..
إنّ سرعة إقالته من اعتبرهم أساسيين، بالإضافة إلى الهوّة التي بدأت تتسع أكثر فأكثر ما بين ترامب المرشح وترامب الرئيس، بفضل خطواته الواسعة عبر الإنتقال من القيادة من الخلف إلى المقعد الأمامي، جعلته يحتاج إلى إثبات رجولته وقوته وما يميزه عن سلفه أوباما، الذي عرف كيف يحفظ ماء وجهه، وامتنع عن توجيه ضربة عسكرية مشابهة في نفس الملف (الكيماوي)، تحت غطاء سياسي أوجده ودعاه "عقيدة أوباما"، لكن إنجرار ترامب وراء حصده نجاحًا سريعًا على المستوى المادي الإقتصادي، أفقده ما لم يكن يحتسبه على المستوى السياسي، فمال "الضربة" الصاروخية وبريقها المزيف ومضاعفة حجم المكاسب من ورائها، جعله يُقدم عليها، دون الإستخفاف بالأوراق التي استحصل عليها، والتي تساعده في مضاعفة الضغط على سوريا. فقد فتح صفحةً جديدة في العدوان على سوريا، ورفع سوية ومنسوب التهديد والعدوان، والتي اكتفى بها سلفه أوباما عبر خرقه السيادة السورية جوًا وباستحداث مطاراتٍ عسكرية على الأراضي السورية، وتوجيه ضربات عسكرية مباشرة ومحدودة للقوات السورية في جبل الثردة تحت عنوان – الخطأ -، بالإضافة لمكاسب تسمح له بالمساواة مع الروس من حيث القوة والتواجد في الميدان السوري – بعيدًا عن القانون الدولي -، ناهيك عن جرّه بعض الدول الأدوات كالدولة الفرنسية الضعيفة نحو مجلس الأمن لتكون كبش فداء أمام الفيتو الروسي الذي كان متوقعًا من الجميع، على طريق إبعادها وإبعاد من تسميهم واشنطن "شركاءها"، وتضييق الخناق عليهم في محاصصة ومقاسمة الدولة الأمريكية الكعكة السورية، مقابل التحكم بسير الإنتخابات الرئاسية الفرنسية، ومساعدة الرئيس الذي سيحظى بالرضا الأمريكي، الأمر الذي جعله غير آبه بصفعة الفيتو الروسي المنفرد بوجه بلاده أيضًا، مقابل إمتناع الصين عن التصويت، واختفاء الفيتو المزدوج – هذه المرة -، والذي عزاه الرئيس ترامب لتقاربه والدفء الذي بثه في العلاقات المستجدة مع الصينيين.
لقد أسرع ترامب بإرسال وزير خارجيته إلى موسكو ليستبق إتخاذها المزيد من الإجراءات نتيجة حماقة العدوان الصاروخي على سوريا، بعد تعليق وإيقاف موسكو آلية التنسيق والتحليق الجوي في الأجواء السورية، ليمنع انهيار العلاقات الروسية -الأمريكية، وربما ليقدم تنازلات جديرة بالتفكير، خصوصًا بعد تصريحات رياكوف بقوله إنّ "العلاقات الروسية الأمريكية تحتدم في الشأن السوري"، وبمقابل استباقه نتائج الإجتماع الثلاثي الروسي – الإيراني – السوري في موسكو، لتخفيف حدة الردود المحتملة، على الرغم من تأكيد الرئيس بوتين قدرة السوريين على الدفاع عن أنفسهم واستمرار موسكو بدعم الدولة والجيش العربي السوري بما يلزم، وتأكيد الرئيس الأسد لصحيفة AFP الفرنسية أول أمس الخميس، أن السياسة السورية لا تقوم على مبدأ ردود الأفعال... كذلك أسرع ترامب وأعاد تكرار مواقفه التي سبقت العدوان الصاروخي بما يتعلق بمصير الرئيس الأسد، وبحسب صحيفة وول ستريت جورنال، والتي أكد فيها على عدم إصرار واشنطن على رحيل الأسد.
وبذلك تكون واشنطن قد أعادت عقارب الساعة إلى ما قبل العدوان الصاروخي، بعد أن فشلت في تحقيق أهم أهدافه في استهداف العملية السياسية والحل السياسي – بحسب الوزير المعلم -، وأتى الإجتماع الثلاثي وحمل مدلولاتٍ ورسائل عديدة، بلغة هادئة لكنها حملت في طياتها أخطر الرسائل الموجهة إلى الكيان الغاصب مباشرة، و"للسلطان" العصملي أدوغان، ولكل من تسوّغ له نفسه شنّ حروبٍ خارجية إنطلاقًا من أراضيه، وسط ما يشاع عن تحضيرات إرهابية جديدة تستهدف الدولة السورية جنوبًا عبر الأراضي الأردنية تحديدًا، أو شمالًا عبر الأراضي التركية، وبذلك وضعت الدولة السورية بمساعدة الحلفاء النقاط على الحروف، وأعادت ربط الصراع مع أساسه وداعمه الأول وصاحب المصلحة الأولى فيه، ألا وهو الكيان الإسرائيلي، ونسخته العصملية أيضًا.. فتصريحات الوزير المعلم كانت واضحة، وأنّ سوريا وحلفاءها على أهبة الإستعداد التام إذ أكد أنه "لدينا إجراءات مشتركة لصد أي عدوان يتم شنه على سورية".
أخيرًا، بات من الضروري لتقييم نتائج العدوان الأمريكي الجديد الإعتماد على ما كسبته أو خسرته الدولة الأمريكية العميقة، وما كسبه وخسره الرئيس ترامب، وبنفس الميزان والحساب ما كسبته الدولة السورية وحلفاؤها وما خسروه، ويبقى المجال مفتوحًا لتقييم المرحلة المعقدة والخطرة على كلا الطرفين والإقليم والعالم، مع التأكيد أنه من تداعيات العدوان الفاشل وتراجع الرئيس ترامب عن تصريحاته بخصوص الرئيس الأسد، وقوله بـ"رحيله بطريقة منظمة"، يطرح السؤال من جديد، كيف لواشنطن وفريق الحرب على سوريا، وخصوصًا جوقة وهمروجة المعارضات، أن يعودوا إلى لقاءات الأستانة وجولة جنيف السادسة بخفي حنين.