د. علي شعيب
تشهد منطقة الشرق الأوسط تطورات على غاية من الخطورة بحيث لا يمكن مقارنته بما كان يحدث من أزمات عشية اتفاق سايكس – بيكو. ومن دواعي الخوف اليوم مما يحدث من نزاعات داخلية في المنطقة العربية هو الترابط الذي أصبح واضحاً بين الصراع المحلي حول البدائل الممكنة لنظام حكم أكثر عدالة والأشكال الأخرى في الصراعات العالمية التي تبحث عن نموذج جديد في العلاقات الدولية بعد سقوط الحرب الباردة. فضلاً عن قيام دول إقليمية تبحث عن مناطق نفوذ لها في المنطقة العربية.
هذه الفوضى غير الاعتيادية حول رسم مناطق نفوذها في المنطقة بمواصفات دولية، ليست عرضية. ثمة حرب مفتوحة بشأن كيفية تحديد مناطق النفوذ في مصطلح الشرق الأوسط، وهي تضم اختلافات عميقة حول معايير هذا التحديد. وبطبيعة الحال، يحاول كل من اللاعبين اعطاء تحديد يناسب مصالحه بالطريقة الأفضل، لذا يطرح الكثير من المصطلحات لخرائط للشرق الأوسط متراكمة ومتداخلة ومتنافسة وتنتظر الضوء الأخضر من أصحاب الحل والربط على الصعيد العالمي.
لا يمكن ربط اسباب طرح الخرائط الجديدة كلها بما يجري من أحداث عنف في سوريا والعراق واليمن وليبيا حالياً، بل هي سابقة على إحداث العنف هذه، إنما أسسها مرتبط بتداعيات غزو العراق للكويت عام 1989 وانهيار النظام العربي وقيام نظام عالمي جديد لم يتشكل بعد سقوط الإتحاد السوفياتي وزوال الحرب الباردة في العام نفسه، وكذلك بروز قوى اقليمية لم تكن موجودة عشية اتفاقية سايكس – بيكو كإسرائيل وإيران الإسلامية وتركيا الإسلامية مع حزب العدالة والتنمية بالتحالف مع الاخوان المسلمين. هناك أمثلة كثيرة تجسد هذا الواقع و تظهرخريطة المصطلحات الجديده.
عام 1991 وبعد هزيمة العراق (صدام حسين) في الكويت افتتح وزير الخارجية الأمريكي جيمس بيكر مؤتمر السلام في مدريد بتقديم طرح لهندسة منطقة "مينا” أي "الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وفق الإختصار الإنكليزي لإسم المنطقة Mena؛ وإعدادها للسلام. هذا المبدأ تلقفه كتاب شمعون بيريز الصادر عام 1993 حول "الشرق الأوسط الجديد”.
وهو يقوم على هيمنة إسرائيل العسكرية على المنطقة،و استبدال الحرب العسكرية بين العرب وإسرائيل بحرب استثمارات تجارية وصناعية…
وبموازاة ذلك أطلقت المجموعة الأوروبية الشراكة الأورومتوسطية الخاص بها. إذ اعتبروا البحر المتوسط الحيادي من الناحية السياسية يشكل إطاراً إقليمياً أكثر أماناً من الشرق الأوسط الدائم الإضطراب، على أن تمسك أوروبا بمقاليد القيادة بدلاً من الولاايت المتحدة الأميركية.
أما الغاية فهو دمج إسرائيل مع المنطقة العربية التي ترفضها واستبعاد إيران الإسلامية وتهميش تركيا، ومن ثم الحصول على بحر متوسط مزدهر وهادئ، والأهم من كل ذلك خفض أعداد المهاجرين غير الشرعيين الوافدين إلى أوروبا من مناطق الاضطرابات والفقر في بلدان العالم العربي وأفريقيا. وهذا جوهر ما يعرف بعملية برشلونة التي أعيد إحياؤها أخيراً إنما بطريقة مقنعة على شكل اتحاد من أجل المتوسط.
وفي حين أن هذه الطروحات كانت مخيبة للآمال ولم تلقى التجاوب المطلوب من البلدان العربيه. حدثت مفاجأة عنيفة في 11 أيلول 1200 إعادة بلورة المنطقة، فابتدع جورج بوش الإبن فكرة جديدة عرفت بالشرق الأوسط الكبير، فوضع في دائرة واحدة كل من أفغانستان وباكستان والعراق واليمن وليبيا والسودان لتكون أهدافاً محتملة في سعي واشنطن لتحديد إطار جغرافي لحربها العالمية على الإرهاب. توجب بالمحصلة استخدام القوة العسكرية استخداماً منهجياً لإحلال الديمقراطية ارتكازاً إلى فكرة تقول أنه لا يمكن إعادة بلورة شرق أوسط إلا من خلال تغيير قسري لأنظمة الحكم المستبدة والطغاة. ومن هنا جاء تورط واشنطن في حربين ضد طالبان أفغانستان، وضد نظام صدام حسين، وفي هذا السياق صار كل عربي أو مسلم مشتبهاً به.
مع فشل حملة بوش الإبن في تحقيق السلام في الشرق الأوسط، وضع خليفته الرئيس أوباما حداً لهذا التوجه الأمريكي المضلل، وتوجه إلى أنقرة وثم إلى القاهرة للتعبير عن "احترامه للإسلام” وعرض الحوار مع إيران، وهي المحطة التالية المعلنة للحملة العنيفة من أجل الديمقراطية.
دور الدول الإقليمية بعد الربيع العربي
كشف تطور الأزمات في سوريا والعراق واليمن تشابك نزاعات الداخل العربي وتدخلات الخارج الإقليمي والدولي. ويبدو أن العامل الإقليمي فرض نفسه على مسرح الأزمات في المنطقة العربية، لحد أن التدخل الدولي لا يستطيع بمفرده التحكم في خرائط للشرق الأوسط يحكى عن تركيبها في المنطقة.
مع العلم أنه بخلاف ما حصل عشية سايكس بيكو، فإن شعوب المنطقة ستكون هذه المرة جزاء أساسيا في عملية رسم خرائط جديدة إن وجدت. ومن جهة أخرى إن استمرار الحرب الداخلية في بعض بلدان المنطقة لا يمكن وقفها إلا إذا حصل توازن في العلاقات الدولية والاقليميه.يبقى أي نوع من الخرائط يحاول اختراعهاللشرق الاوسط؟ أقل ما يمكن قوله هو أن الاختلاف بين اللاعبين الإقليميين والدوليين أنفسهم لا يسهل الحل.
في حين أن الشرق الأوسط، وفق لتصور اسرائيل قصة من الماضي وهي ثابته على مشروعها في المنطقه العربيه،وتاتي احداث المنطقه اليوم لتتمسك اكثر بما تخطط له. إما بتصور إيران فإن تتطور الأحداث تعمل لصالح دورها مستفيدة من أخطاء أمريكية في المنطقة. وقد تمكنت من زيادة تأثيرها زيادة كبيرة وبذكاء عال الدقة في محيطها الإقليمي، مرسخة هيمنتها في سوريا، وموسعة دعمها القوي لقوى الممانعة المحلية مثل حزب الله، حماس، وبانية نفوذا بناء تدريجياً على المجموعات الشيعية العراقية والشيعة بشكل عام. وفي ظل وجود كل هذه العوامل، أصبح تهميش إيران في الشرق الأوسط مجرد سذاجة وليس سياسة جدية. فمن يجرؤ على التساؤل عما إذا كانت إيران جزءاً من الشرق الأوسط أو إنكار دورها الواسع في إعادة هيكلته. ولا قوة تعمل على سلام دائمة في العراق أو سوريا أو اليمن وحتى أفغانستان ممكن من دون المساهمة الإيرانية. وقد شكل نجاح المفاوضات مع الغرب حول الملف النووي الإيراني فرصة لطهران لتسجل أرباحاً على الصعيد الاقتصادي، وربحاً في سعيها المتعطش إلى مزيد من النفوذ كدولة إقليمية.
أما تركيا وبعد أن استنزفت في معركتها للدخول عضواً في المجموعة الأوروبية، خاضت حقبة بالغة الحيوية والثراء في تاريخها المعاصر. وهو على الأقل اعادة اكتشاف للذات ثقافياً واستراتيجياً، داخلياً وخارجياً. فبعد نحو القرن من سفور القومية الطورانية عام 1908، وثمانية عقود ونيف من هيمنة الأتاتوركية التي أمعنت في التغريب وفي الإستعلاء على الشرق كإنتماء حضاري، وعلى الاسلام كهوية تاريخية. نجدها مع حزب العدالة والتنمية برئاسة أردوغان تتصالح مع تاريخها، فتبقى دولة قومية، ولكن متصالحه مع جغرافيتها وموروثاتها. وقد وصف رئيس وزراء تركيا الأسبق داود أوغلو أن ارتباط تركيا بالشرق الأوسط يشبه ارتباط الظفر باللحم وهو ما يعد دليلاً على عمق وتداخل الروابط التاريخية والجغرافية بين تركيا والشرق الأوسط.
أما خطاب رئيس الجمهورية التركية أردوغان في مؤتمر رؤساء الجامعات العربية – التركية في استانبول وفي منتصف عام 2016، والذي دعا فيه إلى إلغاء جامعة الدول العربية لصالح جامعة إسلامية، يظهر بوضوح مدى الحرص التركي على دمج دول الشرق الأوسط العربية تحت الهيمنة التركية. وبالتالي فإن مشاركة إيران وتركيا في الحرب الدائرة في سوريا والعراق لا يعطي مجالاً للشك في حرصهم على دور في صياغة مصير المنطقة العربية وخرائطها.
أما العرب فيبدون ضحايا فعليين لإعادة هيكلة المنطقة لنفسها. وما نداءاتهم للتوحد باتت من التاريخ. والحقيقة هي أن الحكومات العربية تفتش كل منها على مصير لها بمعزل عن مصير المنطقة. فعوارض ضعف الدولة العربية حالياً هو انكبابها على الاهتمام بشأنها الداخلي بشكل دائم وإهمال السياسة الإقليمية جزئياً أو كلياً، لأن هاجس الحاكم العربي يتركز على تأمين السلطة والموارد بالوراثة من خلال الحكم الملكي والعائلات الجمهورية.
وفي هذا السياق من تسلسل الأحداث طبيعي أن يجري حالياً هندسة عدد كبير من نسخ خرائط للشرق الأوسط، وعلى رغم صعوبة تحديد أي منها ستعتمد في النهاية، نصل إلى خلاصتين: الأولى، هي أنه لا يمكن بناء شرق أوسط جديد من دون معرفة الشرق الأوسط القديم، والثانية أن العلاقات الدولية لم تتبدل بين ليلة وضحاها. يفترض أن نميز بين أنماط التفكير التي تسير مصالح الدول الكبرى في القرن الواحد والعشرين عن أنماط التفكير التي تسير مصالح الدول الكبرى في أواخر القرن التاسع عشر من مسألة قيام الكيانات السياسية والحفاظ على حدودها. فالفئة الأولى تعمل على تغيير النظام والسيطرة عليه وليس تغيير الحدود.
لكن تردد انخراط الغرب وبالتحديد واشنطن في حسم الصراع الدائر في المنطقة فتح الطريق أمام روسيا لتحقيق حلمها بلعب دور على الصعيد العالمي على غرارالدور الزي كان للاتحاد السوفياتي اي تثبيت موطئ قدم لها سريع النمو في المنطقة. والأهم من ذلك معطياً اللاعبين الإقليميين في الشرق الأوسط الفرصة لمحاولة إعادة تحديد شكل الشرق الأوسط بأنفسهم ولمصلحتهم الخاصة.
بالطبع يمكن إبداء الشك بنوايا اللاعبين روسيا و الإقليميين النهائية أو بوسائلهم الحالية في إعادة تحديد الجزء الخاص بهم في المنطقة العربية. لكن لا يمكن إنكار حقهم بمحاولة القيام بذلك. ويبقى السؤال هل قادرون على تغيير حدود بخرائط جديدة؟ إن ذلك دونه عقبات، فالحفاظ على الحدود القائمة أسهل من قيام حدود أخرى لمنع اتساع النزاعات التي يصعب السيطرة عليها. إن النظام الإقليمي القائم يعرف جيداً أن اللعب بالخارطة السورية أو العراقية أو غيرها ستطال خرائط بلدانه وسيكون ضحية أي تغيير. ما يمكن تحقيقه ليس اللعب بخارطة الشرق الأوسط بل إبقاء الحدود كما رسمت في أعقاب معاهدة سايكس بيكو، وعبر هذه الخرائط يمكن تشكيل مناطق نفوذ للدول الكبرىوالإقليمية، كما تفعل إيران عبر قوى محلية في سوريا ولبنان والعراق تؤمن مناطق هيمنة لسياستها. وكما تطرح روسيا اقامة منطقه ضمن حدود سوريا تطلق عليها، سوريا المفيده.