سركيس ابو زيد
تركيا، في وضع لا تُحسد عليه، فقد كان عام 2016 عام النكبات والاهتزازات على كافة الصُعد الأمنية والاقتصادية والاستقرار الداخلي والاجتماعي وسياستها الخارجية الاستراتيجية، التي أفقدت تركيا ميزة الاستقرار التي لازمتها منذ وصول حزب العدالة والتنمية الى الحكم قبل 15 عاما.
ومن المعروف أن تركيا بلد مهم وذو ثقل إقليمي غير عادي، إلا أن هذه السنة (2017) ستكون محورية ومفترق طرق بالنسبة إليها، إذ يبدو واضحاً للجميع أن رئيسها رجب طيب أردوغان محاصر بشبكة من الأزمات الداخلية والخارجية، السياسية والأمنية، بالإضافة إلى أن هناك ضغوطاً غير مسبوقة على تركيا، إذا كان ظاهرها هو ملف مكافحة الإرهاب والملف الأمني، فإن الأهم والأخطر هو الملف الاقتصادي وتبعاته المتتالية، لأن قاعدة أردوغان الجماهيرية هم العمال والفلاحون الموجودون خارج إقليم الأناضول المكون من أنقرة وإسطنبول وإزمير، وإذا مسهم الضرر وبدأت البطالة والضيق المالي تصل إليهم، فلا بد أن ينعكس ذلك الأمر على وضعية شعبية الرجل وحزبه، وهذه مسألة أخطر مئة مرة من انقلاب الجيش أو الأحداث الإرهابية.
فيما يخص الملف الأمني الداخلي نجد أن تركيا شهدت في الفترة الأخيرة هجمات إرهابية نوعية كان أخطرها اغتيال السفير الروسي والهجوم على ملهى ليلي في اسطنبول، وهذا العمل الإرهابي المنفذ ليلة رأس السنة اختلف في التخطيط واختيار الهدف والمكان والتنفيذ الدقيق والوحشي، وأريد منه ترك أثر نفسي عميق على الرأي العام التركي والعالمي، كما أنه كشف عن نهج جديد للعنف في تركيا، إذ لم يعد الإرهاب مقتصرا على المقرات الأمنية وإنما برزت أنواع أكثر تعقيدا بالاعتداء على المنشآت السياحية وأماكن تجمع الأجانب بهدف تقويض الاقتصاد التركي، وهذا يدل على أن الإرهاب والعنف آخذ بالتصاعد واتساع رقعته في ظل انكشاف ضعف المنظومة الأمنية ووجود خروقات أمنية واستخباراتية واسعة النطاق في الأجهزة والدوائر.
من هنا نجد أن تركيا تحارب على جبهتين: الجبهة الأمنية في الداخل والجبهة العسكرية في سوريا، وبالتالي هي تواجه خطرين وعدوين:
الأول"داعش" الذي" أعلن الحرب على تركيا على خلفية اتفاقها وتواطئها مع روسيا، متهما إياها بأنها باعت حلب والمعارضة السورية وتحولت الى محاصرته في المناطق الحدودية.
الثاني "حزب العمال الكردستاني" الذي أعلن عن أن الصراع مع الدولة التركية بات "صراع وجود" بعدما تنصل حزب أردوغان من كل عملية السلام وإصراره على استخدام القوة العسكرية وتدمير مئات القرى في جنوب شرق تركيا، ما أدى بدوره إلى تصاعد التوتر والتشظي السياسي الداخلي مع محاولات تأميم الحياة السياسية والإصرار على استخدام العصا الغليظة في مواجهة المحتجين والمعارضين، يترافق ذلك مع استقطاب عرقي حاد نتيجة إنكار حزب العدالة والتنمية للهوية الكردية والسعي لتدميرها وطمسها، ومع احتقان مذهبي عميق لجهة النعرات المذهبية والتحريض علناً ضد العلويين، إضافة الى استقطاب إيديولوجي علماني إسلامي غير مسبوق في ظل تعزيز النزعات المتشددة، لا سيما الدينية في المجتمع وتوافر بيئة حاضنة لحركات التطرف والعنف والإرهاب.
هذا ناهيك عن تورط تركيا في الأزمات والحرائق المشتعلة في جوارها الإقليمي وانخراطها فيها كطرف مباشر، خصوصا في سوريا والعراق، الى درجة يمكن القول إن تركيا التي راهنت على"الربيع العربي" لإنتاج أنظمة إسلامية جديدة وتعزيز سيطرتها وزعامتها الإقليمية، تكاد أن تتحول الى واحدة من ضحايا هذا الربيع العربي الذي وصل لهيبه الى أرضها، ما انعكس سلباً على أمنها الداخلي وزاد من الاضطراب السياسي الذي تعمق منذ الانقلاب الفاشل وانطلاق المواجهة المفتوحة مع جماعة فتح الله غولن المتغلغلة في "الدولة العميقة".
ونتيجة لتعدد أسباب الفوضى والانقسام والتوزع بين ثلاثة اتجاهات: واحد إسلامي وثانٍ علماني وثالث انفصالي كردي، أدى إلى تفاقم خلاف اسطنبول مع الولايات المتحدة نتيجة انحيازها الى جانب الأكراد في سوريا ودورها الخفي في دعم الجماعات المناهضة لأردوغان الذي بات يكثر من استخدام تعبير "المؤامرة" الخارجية ضد بلاده، ولا ننسى هنا ازدياد خلافه أيضاً مع الجار الأوروبي الذي أفضى إلى تجميد مفاوضات انضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، فالأوروبيون يوبخون تركيا على الإجراءات الاستثنائية التي اتخذتها عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، وضد ممارسات الحكومة التركية في ملف الحريات والإعلام والقبض العشوائي على المعارضة، بالمقابل رد الأتراك بتهديد أوروبا بإغراقها باللاجئين في حال استمرار التباطؤ بتنفيذ اتفاق آذار 2016، الذي يتضمن تسريع مفاوضات العضوية ودعم أنقرة ماليا والسماح لمواطنيهم بدخول دول الاتحاد من دون تأشيرة "شينغن".
ونتيجة لفشل سياسات أنقرة الداخلية والخارجية، حلّت أزمتها الاقتصادية، فقد تراجع ما سُمي بـ "المعجزة أو الفورة الاقتصادية" التي شهدتها تركيا مع تراجع كل المؤشرات الاقتصادية وحركة الصادرات، وتراجع سعر صرف الليرة واحتضار السياحة وتقلص حجم الناتج القومي وارتفاع نسبة البطالة وهروب الاستثمارات الأجنبية.
مصادر تركية اقتصادية تقول "إن شركات أوروبية كثيرة أوقفت استثماراتها وألغت شراكتها مع شركات تركية في مشاريع صناعية أو سياحية بسبب الحالة الأمنية المتردية في البلاد ، وتحذيرات شركات التأمين من تغطية المنشآت وكبار الموظفين التنفيذيين الأوروبيين من مخاطر الإرهاب وتبعاته، وكذلك وضع العملة التركية المتذبذبة والمضطربة أمام العملات العالمية الأخرى".
أما على أرض الواقع فإننا نجد أن الأرقام الاقتصادية محبطة، فمعدلات النمو تهبط بشكل مستمر ومقلق، ووضع الليرة يتهاوى أمام الدولار، والسياحة باتت في حالة غيبوبة بعد غياب تام للسياح الأوروبيين والروس والصينيين والأميركيين، والآن جاءت الضربة للسياح العرب، وأرقام الاستثمار في القطاع العقاري والخدماتي والصناعي تنهار بشكل مخيف، ما اضطر الحكومة التركية إلى تقديم عروض مغرية لجلب المستثمر الأجنبي مقابل عوائد مميزة كالإقامة الطويلة أو الجنسية التركية.
وهذا ما دفع رجال الأعمال إلى الشعور بأن هناك قرارًا عالميًا وتحديدًا غربيًا وأوروبيًا قد تم اتخاذه بزعزعة استقرار تركيا بسبب عدم قدرتها على إدارة ملف اللاجئين والمهاجرين العابرين عن طريق تركيا إلى القارة الأوروبية، وعبر معهم عدد من الإرهابيين الذين قاموا بعمليات إرهابية مكلفة، بالإضافة إلى التدفق المهول نفسه في أعداد المهاجرين واللاجئين الذي تسبب في أعباء اقتصادية واجتماعية على دول غير قادرة بالأساس على تحمل تلك التكاليف بسبب ظروف اقتصادية فيها كثير من التحديات والمصاعب، وهي المسألة التي اعتبرتها الدول الأوروبية وكأن الأتراك أرادوا "إثقال" الاتحاد الأوروبي بتلك المسألة كنوع من الضغط السياسي لأجل تحقيق إنجازات أخرى لتركيا مع الدول الأوروبية، وربما وبسبب ذلك مالت تركيا ميلا شديدا نحو الروس وهم الذين كانت تحذر منهم وتعتبرهم مصدر قلق وخوف، إلا أن الغرب بات مصدر رعب بالنسبة للأتراك وارتمت الحكومة التركية وبقوة في أحضان الروس.
ولم يتوقف الأتراك عند هذا الحد فقط، وإنما مالوا أيضاً باتجاه الإسرائيليين والعمل على "تطبيع سريع" للعلاقات التركية - الإسرائيلية، والمؤشر الأبرز الى تطبيع العلاقات واستعادة زخمها ووضعها الطبيعي تمثل في استئناف الحوار السياسي الاستراتيجي بين "إسرائيل" وتركيا في أنقرة بعد انقطاع دام 7 سنوات، أي منذ أحداث أسطول مرمرة أيار 2010 .
ونذكر هنا، أن "إسرائيل" أصبحت أيضاً شريكًا رسميًّا في حلف الأطلسي بعد إسقاط تركيا اعتراضاتها، فقد سعت تل أبيب في السنوات الأخيرة مع الحلف الأطلسي إلى تطوير العلاقات الثنائية، لكن العائق الأساس كان الموقف التركي، العضو في الحلف، الذي يملك كغيره من الأعضاء حق النقض ضد مشاركة أي دولة ليست عضواً فيه. ومنذ أحداث هجوم الجيش الإسرائيلي على سفينة مرمرة التركية عام 2010، فرضت أنقرة قيوداً على أنشطة "إسرائيل" وعارضت أي تعاون معها في "الأطلسي"، لكن هذا الموقف تغير أخيراً بعد تحسين العلاقات والتطبيع بين الجانبين، وذلك في مرحلة ما بعد اتفاق المصالحة، إذ أزالت انقرة اعتراضاتها، الأمر الذي مهد الطريق أمام "إسرائيل" وفتح أمامها أبواب بروكسل على مصراعيها، وكان من نتيجته أيضاً، لقاء نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي يائير غولان برئيس الأركان العامة للجيش التركي، الجنرال خلوصي آكار، على هامش أعمال المؤتمر السنوي لرؤساء الأركان، في مقر حلف شمالي الأطلسي (الناتو) في بروكسل، الذي صُنف على أنه الأرفع بين ضباط إسرائيليين وأتراك منذ عام 2010، وهو يأتي ترجمة لتحسين العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، وإشارة جديدة إلى توطدها بعد اتفاق المصالحة بين الجانبين.
باختصار، نجد أن النموذج التركي الرائد في العالم المسلم لدولة تحديثية ديمقراطية، والذي تطلعت إليه الدول الغربية بعد انطلاق ثورات العالم العربي قد سقط، ومشروع تركيا لرسم ملامح الشرق الأوسط وفقا لسياساتها وحقوقها التاريخية قد سقط أيضا، وفي ظل سياسات الاستقطاب الداخلية الشاملة والسعي لتغيير الطبيعة العلمانية للدولة وإعادة هندسة التوازنات الاجتماعية، فإن فرص تركيا في تحقيق استقرار داخلي سياسي واجتماعي، أمني واقتصادي، تبدو ضئيلة وضعيفة، وعوامل الانفجار قائمة ومجال المفاجآت مفتوح سواء على شكل اضطرابات شعبية أو عمليات إرهابية أو انقلابات عسكرية باتت الأضعف أو اغتيالات سياسية باتت الأقوى.