kayhan.ir

رمز الخبر: 50019
تأريخ النشر : 2016December23 - 20:03

تركيا و«النصرة» إلى «أبغض الحلال».. فهل سيسري في إدلب؟:


عبد الله سليمان علي

رفعت تركيا ورقة الطلاق بوجه «جبهة النصرة» بعد علاقة طويلة بينهما تراوحت صعوداً وهبوطاً بحسب تطورات الميدان السوري وحساباته المعقدة. إجراءات الطلاق بين الطرفين لن تكون سهلة أو قصيرة، لكن «النصرة» أصبحت تعي جيداً أن دورها بعد التدخل التركي المباشر في شمال حلب لن يكون كما قبله، خصوصاً بعدما ظهر حجم التباين بين مشروعها وبين مشاريع السياسة التركية .

قبل التلويح بالطلاق، مرّت العلاقة بين الطرفين بعصر ذهبي استمر نحو أربع سنوات من الوصال الأمني والعسكري. خلال هذه السنوات، كانت أنقرة تُراهن على قدرتها على تطويع غالبية الفصائل التي تدعمها، بما فيها «النصرة»، لتكون بمثابة «جيش ظل» تستخدمه لتحقيق أجندتها الخاصة. إلا أن «جبهة النصرة» كانت على الدوام تُعبّر عن رفضها للقيام بدور الزوجة المُطيعة. وقد فشلت جميع المحاولات التي بذلتها أنقرة وبعض الوسطاء مثل قطر لإنهاء نشوز «النصرة» وردّها إلى بيت الطاعة، فكان لا بد من «أبغض الحلال» وهو الطلاق، لا سيما أن النشوز تحول إلى تمرد، والتحفظات تطورت إلى تناقض جوهري في السياسة وفي العسكرة.

ومنذ بداية تأسيسها كفرعٍ سرّي تابع لـ «دولة العراق الاسلامية» («داعش» لاحقاً)، حاولت «جبهة النصرة» ترسيخ معادلة مفادها أن تلقّي الدعم من أنقرة لا يعني القبول بعضوية الحظيرة التركية.

في هذا الوقت المبكر من الحرب السورية، بدأت «جبهة النصرة» باستشعار الجهود التركية الساعية لتجنيدها كمجرد أداة، وهو ما أكد زعيمُها أبو محمد الجولاني أنه كان على وعيٍ به ورافضٍ له. وقد تضمنت كلمتُه المُعنونة «أهل الشام فديناكم بأرواحنا» الصادرة أواخر عام 2012 (قبل انفصال «النصرة» عن «داعش»)، تصريحاً علنياً عن رفضه الانضمام إلى جوقة الوصاية التركية، مشيراً صراحة إلى «محاولات فاشلة متكررة لسحب قدم الجبهة لساحات الوصاية في تركيا عبر الوسطاء». ولم يكن هذا التصريح مجرد رفض للوصاية التركية، بل كان غمزاً من قناة «أحرار الشام» التي وافقت عليها.

وطوال عام 2013 وحتى أواخر عام 2014، كانت العلاقة بين «جبهة النصرة» وأنقرة تقوم على قاعدة استمرار الدعم اللوجستي والتسليحي للمعارك ضد الجيش السوري، لكن مع بروز مؤشرات على عدم رضا أنقرة عن تفرّد «النصرة» ومحاولتها الطيران خارج سرب طموحاتها.

وقد كانت أبرز المعارك التي دعمتها تركيا في تلك الفترة معركة كسب (آذار 2014) التي شهدت أخطر تصعيدٍ تركي ضد الجيش السوري تمثل بإسقاط طائرة حربية سورية. لكن كان قد سبق ذلك قيام السلطات التركية في شهر تشرين الثاني 2013 بتنفيذ أول اعتقال بحقّ قيادي بارز في «جبهة النصرة» هو السعودي عبد الله الخالدي بذريعة عدم حيازته جواز سفر.

وشكّل اعتقال الخالدي رسالةً واضحة إلى «جبهة النصرة» بأن تمردها على الإرادة التركية سيكون له أثمان أمنية تطال كبار قادتها. ويبدو أن اختيار الخالدي ليكون صندوق البريد لإيصال الرسالة لم يكن من قبيل الصدفة، بل تضافرت عوامل عديدة لهذا الاختيار، أهمها أن الرجل، وهو قيادي بارز وكان يحظى بشهرة واسعة على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر»، أقدم على ارتكاب حماقة اعتبرتها تركيا تجاوزاً للخطوط الحمراء، إذ في غمرة الحملة الإعلامية ضد الجيش السوري على خلفية ما سمي «مجزرة الغوطة الكيماوية»، خرج الخالدي وأقرّ بامتلاك «جبهة النصرة» لقنابل كيميائية. وما زاد من غضب السلطات التركية أن هذا الاقرار جاء بعد أسابيع فقط من الفضيحة التي ركزت عليها بعض وسائل الإعلام بخصوص إفراج القضاء التركي عن اثني عشر عنصراً من «جبهة النصرة» ألقي القبض عليهم بتهمة حيازة كيلوغرامين من غاز السارين محاولين تهريبه إلى سوريا.

وبالرغم من أن تركيا صنفت «جبهة النصرة» تنظيماً إرهابياً منتصف عام 2014، إلا أن هذا التصنيف بقي مجرد حبرٍ على ورق، ولم تكن له أي تأثيرات على العلاقة بين الطرفين. وهو ما أثبته تصريح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد ذلك بعامين، وتحديداً في حزيران الماضي، عندما تساءل «لماذا تصنفون جبهة النصرة على أنها إرهابية؟»، موجهاً السؤال للولايات المتحدة. مع ذلك كان من الواضح أن تركيا تسعى من خلال تعاملها المزدوج مع «جبهة النصرة» إلى ترويض الأخيرة وإدخالها في حظيرتها بالتراضي حيناً وبالإكراه حيناً آخر.

في هذه المرحلة، بدأت الضغوط التركية ـ القطرية الأولى لإقناع «جبهة النصرة» بفكّ ارتباطها مع تنظيم «القاعدة»، ولم يشكل تصنيفها كتنظيم ارهابي مانعاً لدى الدولتين يحول دون ذلك، فالوعود الموجهة إلى «النصرة» كانت تتضمن رفع اسمها من قائمة الارهاب الدولية لا فقط التركية. في المقابل، كان تشكيل «جيش الفتح في إدلب» في الربع الأول من عام 2015 بمثابة الجزرة التي تم إلقاؤها أمام «النصرة» لإقناعها بأن الرضوخ للضغوط التركية ـ القطرية سينعكس عليها إيجاباً من كافة النواحي. وقد دعمت تركيا «جيش الفتح» حتى مكنته من السيطرة على عموم محافظة إدلب، واصبحت «جبهة النصرة» شريكة اساسية في إدارة المحافظة والاستفادة من «غنائمها».

غير أن جزرة «جيش الفتح» و «جنة إدلب» لم تؤتيا مفعولهما، إذ سرعان ما وجهت «النصرة» أول صفعة لأنقرة عندما خرجت في شهر آب من عام 2015 لترفض «مشروع المنطقة الآمنة» التركي وتصفه بأنه «يخدم الأمن القومي التركي» ولا يصب في مصلحة الجهاد والثورة. وآثرت «النصرة» آنذاك الانسحاب من معاقلها ونقاط رباطها في ريف حلب الشمالي على تأييد المشروع التركي والانخراط فيه كما فعلت غالبية الفصائل الأخرى، وعلى رأسها «أحرار الشام».

لكن رفض مشروع المنطقة الآمنة لم يؤثر كثيراً على العلاقة بين الطرفين. وقد ظهر هذا جلياً في إعادة تشكيل «جيش الفتح» في حلب ودعم أنقرة اللامحدود له في معاركه الضارية ضد الجيش السوري، وخصوصاً في الراموسة ومنطقة الكليات. وقد أدت عوامل عديدة في عدم تأثر العلاقة بينهما، منها بدء روسيا «عاصفة السوخوي» التي تركت تداعيات واسعة جعلت جميع أطراف المحور الآخر تشعر بضرورة التكاتف لمواجهتها، ومنها ايضاً أن «النصرة» في رفضها مشروع المنطقة الآمنة كانت حريصة على استخدام صياغة سياسية لموقفها بعيداً من الصياغة الشرعية التي تخلق عادةً حساسيات عالية.

ويبدو أن «جبهة النصرة» استشعرت بأن المسار الذي تسير عليه سيؤدي بها إلى الاصطدام مع أقرب الفصائل التي تتحالف معها على الأرض، ومن ورائها الدول الداعمة لها وعلى رأسها تركيا. وفي لحظة مصيرية ظللّها التخوف من توصل موسكو وواشنطن إلى اتفاق لاستهدافها، أقدمت «جبهة النصرة» في تموز الماضي على إعلان فكّ ارتباطها مع «القاعدة» ظنّاً منها أن هذا الموقف الذي طالما سعت أنقرة والدوحة إلى شرائه سيخفف من حدة الأزمة التي تنتظرها.

لكن «فك الارتباط» المتأخر لم يجد من يشتريه، واستمرت العلاقة مع أنقرة بالتدهور، وهو ما بدا من خلال تصريح وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو قبيل اجتماع الرئيسين التركي والروسي في بطرسبورغ في آب الماضي، حيث أعلن استعداد بلاده لاتخاذ قرار مشترك مع روسيا بشأن مكافحة تنظيمي «داعش» و «جبهة النصرة».

لا شك بأن هذا التصريح لم يمرّ مرور الكرام لدى «قيادة النصرة»، وربما هو ما دفعها إلى مقابلة التصعيد بتصعيدٍ مماثل، عندما أصدرت بعد أقل من شهر، وتحديداً في 23 أيلول، فتوى تقضي «بتحريم الاستعانة بالجيش التركي» رداً على عملية «درع الفرات».

فما كان من أنقرة إلا أن رفعت ورقة الطلاق بوجه «جبهة النصرة»، وهو ما تجلى بوضوح في طريقة التعاطي التركي مع ملف شرق حلب، بدءاً من مطالبتها لـ «جبهة النصرة» بالخروج من الأحياء الشرقية بشكل منفرد، وصولاً إلى عدم اعتراضها على تضييق الخناق على جميع الفصائل داخل هذه الأحياء، حتى اضطرها ذلك إلى القبول بإخلاء المدينة استجابة للضغط العسكري الذي مارسه الجيش السوري عليها. وهو ما أكدته، أمس، مخرجات الاجتماع الثلاثي في موسكو الذي ضمّ وزراء خارجية روسيا سيرغي لافروف وتركيا مولود جاويش أوغلو وإيران محمد جواد ظريف، حيث أكد المجتمعون أن دولهم ـ بما فيها تركيا ـ «عازمة على مواصلة حربها ضد تنظيم «داعش» و «فتح الشام».

لكن يبقى السؤال: هل ستسري مفاعيل الطلاق على محافظة إدلب التي تعتبر أهم معاقل «جبهة النصرة» في سوريا، أم سيكون لهذه المحافظة حسابات مختلفة تسمح للطرفين باستمرار التعايش بينهما تحت سقف التخادم والمصالح المتقاطعة ريثما تضطرهما تطورات الأحداث وتداعياتها للانفصال التام والنهائي؟