ما وراء خطاب البارزاني التصالحي مع بغداد؟
عادل الجبوري
على عكس كل التوقعات، اختار الحزب الديمقراطي الكردستاني، وزعيمه مسعود البارزاني التهدئة مع بغداد بدلا من التصعيد، بعد اقالة وزير المالية هوشيار زيباري من قبل مجلس النواب العراقي في الحادي والعشرين من شهر ايلول-سبتمبر الماضي.
ما تحدث به البارزاني وقياديون اكراد اخرون خلف الكواليس، وما لوحوا به من خلال المنابر السياسية وعبر وسائل الاعلام، هو ان اقالة زيباري ستكون نهاية العلاقة بين الاقليم والمركز، وستبدأ فعليا مرحلة العمل نحو الانفصال والاستقلال، ولكن ما جاء به وقاله البارزاني في بغداد خلال وبعد لقاءاته برئيس الوزراء حيدر العبادي، ورئيس الجمهورية فؤاد معصوم، ورئيس التحالف الوطني السيد عمار الحكيم، كان مختلفا بالكامل.
اعتبر رئيس اقليم كردستان، ان بغداد تمثل العمق الاساسي الاستراتيجي لاقليم كردستان، واكد ان استقلال كردستان لن يتم الا بموافقة بغداد، وان جميع الاطراف ستشارك في تحرير الموصل من تنظيم داعش، وان الحوار البناء والجدي هو الخيار الاسلم والافضل لحل ومعالجة مجمل المشاكل والقضايا العالقة بين المركز والاقليم، ومن بينها تصدير النفط وتوزيع الموارد المالية المتحصلة منه. وبين البارزاني كذلك في تصريحاته من بغداد، ان قدر ومصير العراقيين على اختلاف وتنوع قومياتهم وطوائفهم واتجاهاتهم السياسية واحد، ولا سبيل امامهم الا التفاهم والتعاون والانسجام.
البارازاني ...الى بغداد در
ولا شك ان مثل هذا الخطاب الكردي-البارزاني يعد تحولا كبيرا وانعطافة واضحة في المواقف والتوجهات، بعد ان كان ما يقال على لسان البارزاني واخرين من المقربين منه، ان الحدود بعد داعش ترسم بالدم، وان الاكراد لن ينسحبوا من المناطق التي تحررها قوات البيشمركة من داعش، وان استقلال كردستان حاصل لا محالة سواء قبل الاخرين ام لم يقبلوا، وانه اذا لم تدفع الحكومة الاتحادية رواتب موظفي الاقليم، سيكون للاكراد كلام اخر!، وغير ذلك من التهديدات الكلامية.
واذا كانت زيارة البارزاني لبغداد، وما طرحت فيها من مواقف كردية ايجابية، اوجدت اجواء من الارتياح، وعكست رغبة في التوجه نحو التهدئة والانفراج، الا انها افرزت جملة تساؤلات واستفهامات واقعية ومنطقية، عن سر التحول الكبير وغير المسبوق في مواقف البارزاني، رغم ان حزبه خسر اخر موقع مؤثر ومحوري في بغداد بعد اقالة هوشيار زيباري؟.
لاشك ان ما قاله البارزاني وصرح به من بغداد، ايجابي ومفيد في تخفيف حدة الاحتقانات السياسية، وتهيئة الارضيات والظروف المناسبة لانجاز مهمة تحرير الموصل، وتعزيز الثقة بين الفرقاء، وان بحدود ومستويات بسيطة-رغم ان البارزاني لم يلتق بعض الشخصيات السياسية في بغداد على خلفية ازمات سابقة قديمة،جديدة، ومن بين ابرز من لم يلتقيهم لمثل تلك الخلفيات، رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، ورئيس مجلس النواب سليم الجبوري-ناهيك عن كونه اقرارًا واعترافًا ضمنيًّا بعدم صوابية المواقف والتوجهات الانفعالية السابقة.
هذا جانب، وهناك جانب اخر، يتمحور حول الظروف والاوضاع المحيطة بزيارة البارزاني من حيث التوقيت والمواضيع المطروحة للنقاش، والمواقف المتخذة بشأنها.
جاء البارزاني الى بغداد، وهو فاقد للشرعية كرئيس للاقليم، مثلما يقول ويردد ذلك كل خصومه السياسيين، ونسبة لا بأس بها من الشارع الكردي، وقد رفضت بعض الاطراف الكردية، دعوة البارزاني لانتداب من يمثلها في الوفد الكردي الزائر لبغداد، لانها باختصار لا تريد ان تمنحه الشرعية، وهناك اطراف كردية، اعلنت بصورة رسمية ان البارزاني لا يمثل الاقليم، وانما يمثل حزبه فقط، وهناك اطراف شاركت في الوفد الكردي، لا حبا ولا اعترافا بالبارزاني، ولكن لانها كانت تحرص على ان تكون حاضرة لتسمع وتشاهد وتراقب كل مجريات الامور من ألفها الى يائها.
وجاء البارزاني الى بغداد، ومختلف مدن الاقليم تعج بتظاهرات واسعة للكوادر التعليمية في المدارس والجامعات احتجاجا على تأخر الرواتب وخفضها بنسب كبيرة، ما يهدد بشل المؤسسات التربوية في الاقليم خلال العام الدراسي الجديد، ولعل من المتوقع ان تستمر التظاهرات وتتسع بانخراط شرائح وفئات اخرى من الموظفين اليها، علما ان موظفي الاقليم لم يستلموا رواتبهم منذ اكثر من ستة شهور، ويستثنى من ذلك منتسبي قوات البيشمركة، التي تعهدت الولايات المتحدة الاميركية بتأمين رواتبهم خلال هذه الفترة، ورواتب منتسبي الاجهزة الامنية والقضاة.
وجاء البارزاني الى بغداد، في الوقت الذي تجاوزت مديونية الاقليم 30 مليار دولار لشركات نفطية ومصارف ومؤسسات عالمية ورجال اعمال، في ظل عجز وفشل كبيرين من قبل المعنيين بإدارة الامور بما يؤدي الى تطويق الازمة المالية وحصرها عند حدود معينة.
وجاء البارزاني الى بغداد، بعد ان كان قد تلقى رسائل واشارات بعضها صريحة وبعضها الاخر ضمنية من اصدقاء دوليين واقليميين، تفيد برفضهم القاطع الحديث عن انفصال الاقليم واستقلاله، وتشديدهم على وحدة العراق، في هذه المرحلة على اقل التقادير، وتأكيدهم دعم ومساندة الحكومة العراقية الاتحادية ورئيسها حيدر العبادي.
وجاء البارزاني الى بغداد، في وقت اتسعت مساحة خصومه واعدائه في الفضاء الكردي العراقي وما وراءه، فحزب الاتحاد الوطني الكردستاني وحركة التغيير(كوران)، والجماعة الاسلامية الكردية مختلفان معه الى ابعد الحدود، وحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني السوري(PYD)، وحزب العمال الكردستاني التركي (PKK)، وحزب الحياة الحرة الكردستاني الايراني(بيجاك) في حرب غير معلنة معه.
وجاء البارزاني الى بغداد، وهناك اصوات داخل حزبه تهمس وفي بعض الاحيان ترتفع قليلا، متسائلة عمن يخلف البارزاني في زعامة الحزب، وفي الحقيقة هي رافضة ان تكون الزعامة وراثية وتنحصر في العائلة البارزانية.
كل هذه الامور، من الطبيعي جدا ان تدفع بالبارزاني الى ان يأتي إلى العاصمة العراقية بعد قطيعة طويلة بخطاب اخر، يختلف عن خطابه الى ما قبل اسابيع قلائل، كالاختلاف بين الطلاق البائن والعشق الابدي!.