أوروبا لا تتناغم سورياً مع واشنطن: لدينا ما يكفينا من صداع مع روسيا
وسيم ابراهيم
لن تجد ممن يسأل عن حزمة التهديدات الأميركية لروسيا، خصوصاً ما يتعلق بالعضد الأوروبي فيها، مسؤولا معنيا في بروكسل يأخذها على كامل محمل الجد. واشنطن توحي أن حلفاءها جاهزون للضغط على موسكو، عبر مطرقة العقوبات الاقتصادية المؤثّرة، أما هم فغير قادرين على استخدام هذه الأداة قبل الحديث عن مدى رغبتهم الفعلية.
هكذا تبدو الأفعال الدرامية الأوروبية من طينة الغموض نفسه الحاكم لصراع روسيا وأميركا في سوريا: على ماذا الاتفاق بالأساس، بالضبط، ليمكن تحديد أين الخلاف؟ هل بالفعل انهارت الصفقة الأخيرة على جولة تهدئة، أم أن هناك حاجة لمزيد من التنافس الدموي لتثبيت أركانها المعدّلة أميركيا؟ الأجوبة الأوروبية تزيد الغموض المخيّم على جوهر تلك التفاهمات المحركة للصراع، خصوصا مع الحديث عن عمل أوروبي في الكواليس على جوانب متممة، ديبلوماسية وسياسية.
بعض الأوروبيين سمعوا عن نياتهم في الأخبار. مع إطلاق واشنطن الحملة الغربية على روسيا، أعلن البيت الأبيض قبل أيام أن وزير الخارجية جون كيري ينسق الردّ الغربي مع الأوروبيين. اتصل بنظراء أوروبيين، بهدف تصعيد «الإجراءات العقابية». لا حاجة لواشنطن لنطاق كهذا من التنسيق الديبلوماسي المعلن كي تلوّح بإمدادات الأسلحة، بل أرادت الإيحاء بإمكانية إعادة تحريك عجلة العقوبات الاقتصادية المؤثرة لدى حلفائها الأوروبيين.
غير التناغم في الهجوم الكلامي، الإدانة بكلمات حادة، لم يخرج موقف أوروبي مواز لتزكية هذا الخيار. مسؤول أوروبي منشغل بالملف تحدث لـ «السفير» عن أن المطلوب الآن «حراك ديبلوماسي يبتعد عن انتاج مزيد من التصعيد».
اعتبر أن الدور الروسي المهيمن في سوريا يقتضي التصرف بـ «حكمة»، موضحا أن «ما نحتاجه هو إعادة روسيا للانضمام إلى الجهود الدولية الهادفة لإيجاد تسوية تبدأ بإعادة وقف الأعمال العدائية». وفق ذلك المنطق، رفض الحديث عن دراسة خيار العقوبات، مجددا التأكيد على أن «الاستفزازات غير ملائمة الآن».
بدوره، رفض ديبلوماسي أوروبي رفيع المستوى أي إشارة إلى «خطة باء (خطة بديلة)»، مشددا لـ«السفير» على أن «كل الجهود منصبة على خطة واحدة هي إيقاف العنف». وتحدث عن أنه «من المبكر» التطرق لموضوع العقوبات الاقتصادية، لافتا إلى أن الجهود الأوروبية، بالتنسيق مع فرنسا وبريطانيا، تتركز على «تكثيف الضغوط الديبلوماسية» تحت مظلة الأمم المتحدة ومجلس الأمن.
المسألة الأخيرة أكدتها أيضا وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي فيديريكا موغيريني، ولفتت خلال مؤتمر صحافي في بروكسل إلى وجود «محادثات تنخرط فيها دول أوروبية والأمم المتحدة في نيويورك»، مبدية تحفظها على ذكر أي تفاصيل أخرى بهذا الخصوص.
وبدت موغيريني حذرة أيضا من اعتماد خطاب مواجهة مع روسيا، مكتفية بأدنى درجات الإيحاء بوجود بدائل للضغط عبر «إجراءات من المحتمل أن تتخذ من قبل الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي».
منذ مدّة، تعزف موغيريني اسطوانة التهدئة، معتبرة أن الاتحاد الأوروبي يمكن أن يلعب دورا مهما عبر صلاته بمختلف أطراف الصراع. دور كهذا قالت إنه سيتضافر مع دور الوساطة الأممية. يوضح ذلك ما يكفي من عدم الرغبة، وعدم الجدوى، في الذهاب للصراع مع أكبر فاعل في الطرف الآخر من الصراع. على ذلك المنوال، شددت أمس الأول على أن «كل ما نفعله الآن هو التركيز على العجالة والحاجة الفورية لوضع نهاية للمجزرة»، مستدركة: «عملنا هو ضمان ألا يحدث هذا، وأن نكون قادرين على حماية حيوات الناس تحت هذا الوضع في حلب خصوصا، وفي سوريا».
للتأكيد على محاولة التموضع الوسطي، أعادت موغيريني الإشارة لمبادرات غامضة، في الكواليس، يعمل عليها الاتحاد الأوروبي. اكتفت بالقول إن محاولات إعادة الهدنة ليست كل شيء، بل «نحن نعمل في النواحي الديبلوماسية والسياسية، لكن ليس الآن وقت الحديث عن ذلك».
يضيف ذلك مزيداً من حراك غامض وملتبس يحيط بالصراع الدولي في سوريا مؤخرا: المزيد من الأسباب غير المقنعة لانهيار اتفاق سري مع التشديد على أنه كان مكتمل التفاصيل، لتخرج اتهامات روسية لواشنطن بالتراجع والمناورة، قبل أن يمهّد لكل ذلك استهداف موقع الجيش السوري من قبل التحالف الغربي «بالخطأ»، متبوعا بتدمير قافلة المساعدات الإنسانية مع تضارب الروايات وتبادل الاتهامات. خلال كل ذلك، حرصت تصريحات الأوروبيين على الإيحاء بأنهم يعدّون أنفسهم لمرحلة ما بعد اتفاق عسكري، أميركي - روسي، يفتح المجال للانتقال إلى حلبة التفاوض السياسي.
تحت تلك العناوين، الأوروبيون أبعد ما يكون عن الرغبة في التصعيد مع روسيا، خصوصا في مجال العقوبات الاقتصادية.
بالطبع يمكنهم الضغط، وحتى الإيلام الشديد. حينما خرجت أحاديث أوروبية عن أفكار حول عزل روسيا ماليا، بفصلها من «نظام سويفت» للتحويلات بين المصارف الدولية ومركزه بروكسل، رد رئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيديف بأن ذلك لن يكون أقل من «إعلان حرب». اختفت بعدها أي إشارة للموضوع.
يمكن للأوروبيين إيلام روسيا، لكنهم لم يلجأوا إلى ذلك في صراع أوكرانيا، بما هو حرب على تخومهم ونتيجة مباشرة لمشروع توسيع نفوذهم شرقا.
في الأساس، لم يعرف الأوروبيون كيف استطاعوا لملمة الوضع في أوكرانيا. سلسلة من العقوبات الاقتصادية، ردت عليها موسكو بعقوبات مضادة، ليلجأ الطرفان إلى مائدة تفاوض أخرجت قيصريا اتفاق «مينسك» بين حكومة كييف والانفصاليين. كان ذلك في شباط 2015، ليختفي بعدها الحديث عن المزيد من العقوبات. الحديث يدور فقط عن «إمكانية رفع العقوبات»، ربطا بالتطبيق الكامل لاتفاق مينسك. أميركا ليست موجودة بين مجموعة رعاة الاتفاق المقتصرة على رباعي يضم روسيا وأوكرانيا إلى فرنسا وألمانيا. مسؤولون أوروبيون كانوا عبروا عن خشيتهم من أن تجرهم واشنطن إلى مأزق فعلي مع موسكو، قبل أن تدرك برلين تماما خطورة المزيد من التصعيد حينما تصير أداته المباشرة حربا جديدة في أوروبا.
الآن، ثلث دول الاتحاد الأوروبي يعارض علنا العقوبات على روسيا. بعض القادة الأوروبيين اعتبروها إضرارا بالنفس لإغاظة الخصم. لذا كان تجديدها يحصل بشقّ الأنفس، مع كثير من الخلاف والسجال.
على هذه الخلفية، يمكن تخيّل الحال مع حديث عن تصعيد بعقوبات إضافية، مع العلم أن الأوروبيين مقبلون على مراجعة إستراتيجية لعلاقاتهم بروسيا، مع انشغال تام بمستقبل اتحادهم وبيوتهم السياسية المهددة بصعود اليمين المتطرف متوجا أزماتهم.
الحرص على التهدئة والمهادنة لم تبدده خروقات إطلاق النار المتواصلة في أوكرانيا، حتى تهدده الحرب السورية التي يقاربها الأوروبيون الآن من منظار قضية اللاجئين أولا. تأكيدا على ذلك النهج المبتعد عن الاستفزاز، صارت ألمانيا وإيطاليا تدعوان، علنا، للجم الـ «ناتو» عن لغة «قرقعة السلاح» مع روسيا.
الجاران القويان الملتصقان، بمشروعين متنافسين، متنافرين بالطبيعة، يدركان أن علاقتهما تمر بمرحلة حساسة جدا، آخر ما تحتاجه الاستفزازات. حتى حينما سافر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى اليونان، في ضيافة حكومة في صفه أوروبيا، قبل أشهر، فضّل عدم المجاملة. حينما سألته الصحافة هناك رأيه، قال بوضوحٍ بالكاد تغلفه اللباقة: «اليوم روسيا والاتحاد الأوروبي وصلتا إلى مفترق طرق، ليبقى علينا الإجابة عن السؤال: كيف نرى مستقبل علاقتنا وفي أي اتجاه نخطط أن نسير؟».