أفول المملكة الوهابية
مصطفى السعيد
لأول مرة تواجه المملكة السعودية الوهابية خطرا جديا على وجودها، فدور المملكة في نشر الإرهاب لم يعد بالإمكان القبول به، حتى لو استخدمته الولايات المتحدة ووظفته لتحقيق مصالحها، فأمريكا مثل أنثى العنكبوت "الأرملة السوداء"، التي تقتل الذكر وتأكله بعد أن يؤدي دوره في تلقيحها، والوهابية انتهى دورها الوظيفي، وأصبحت عبئا حتى على العائلة الحاكمة في السعودية.
لكن العلاقة بين آل سعود والوهابية مثل التوائم السيامية (الملتصقة)، والتي يصعب فصلها، وأي تحجيم للمؤسسة الوهابية في السعودية سوف يلحق ضررا كبيرا بالأسرة الحاكمة، وستواجه غضبا وتمردا من مؤسسة متغلغلة في المملكة، لها نفوذها وتأثيرها، لكن الوهابية عصية على التجديد أو الاستمرار بحكم طبيعتها الجامدة والرجعية، وفتاواها وسلوكها وأفكارها لم تعد قابلة للبقاء، فهي معادية للعلم والحياة العصرية، بل معادية للإنسانية، ولأنها الأم الشرعية لمعظم التنظيمات الإرهابية، التي نشرت الرعب والموت وأسالت أنهارا من الدماء في كل أنحاء العالم فإن القضاء عليها أصبح مطلبا عالميا، حتى أن حلفاء آل سعود لم يعد بمقدورهم الدفاع عن المملكة التي قدمت لهم خدمات جليلة، منها الحرب على الإتحاد السوفييتي وحروب أسعار النفط وحتى استيلاد داعش وأخواتها، والمشاركة في التآمر على أي دولة تعادي إسرائيل، حتى لو كانت في أمريكا اللاتينية.
إن مبادرة التحديث المنسوبة لمحمد بن سلمان، ابن الملك، وولي ولي العهد، ووزير الدفاع لا يمكن اعتبارها خطوة جدية، لأنها مجرد ورقة هدفها امتصاص غضب أوروبا الناجم عن تحميل الوهابية وزر العمليات الإرهابية على أراضيها.
وفي المقابل فإن الطبقة الوسطى وخريجي الجامعات الأجنبية لم يعد بإمكانهم العيش تحت نير الحكم الوهابي، وغياب القانون والدستور والأحزاب والانتخابات والمجالس التشريعية، وغيرها من مؤسسات الدولة الحديثة، وهذه الطبقة المثقفة يزداد ثقلها الاقتصادي والفكري داخل المملكة، وهي تحمل كل عوامل التمرد.
أما معتنقو المذهب الشيعي فهم يلقون معاملة فظة، لا تكتفي بتهميشهم، ومنعهم من الكثير من الوظائف والخدمات، بل يجري تكفيرهم علنا، وبفتاوى من كبار رجال الدين في المملكة، ويتعرضون للملاحقة من أجهزة الأمن وتفجيرات وهجمات الجماعات التكفيرية، وبلغ غضبهم حد كسر حاجز الخوف والخروج في مظاهرات، لم تشهد لها المملكة مثيلا.
هذا جانب من التحديات الخارجية التي تواجهها المملكة الوهابية، والتي زاد من خطورتها سياسة المملكة في إغراق الأسواق بالنفط لخفض سعره، للإضرار بخصومها من الدول المنتجة مثل روسيا وإيران والعراق وفنزويلا، لكنها تدفع الثمن الأكبر لخفض الأسعار، وباتت تعاني أزمات اقتصادية دفعتها إلى رفع أسعار الكثير من الخدمات.
لكن أخطر ما تواجهه المملكة هو طوق الكراهية الذي يحيط بها من كل جانب، حتى أن دولة الإمارات بدأت تنأى بنفسها عنها، خاصة مع تزايد خسائرها في اليمن، واستعانة المملكة بمنتمين إلى جماعة الإخوان، التي تثير مخاوف دول الخليج ( الفارسي ) من انتشار أفكارها ومنتسبيها، كما اعتمدت قطر سياستها الخاصة، وتثير معها المشاكل في غير مكان، وآخرها اتصال أمير قطر بإيران، والسعي لتطبيع العلاقات معها، أما الكويت فتبتعد أكثر فأكثر عن سفينة المملكة المترنحة وسط أمواج العنف والحروب، وتخشى أن تصاب بشظايا سياسة التفجير وإشعال النيران التي تنتهجها المملكة.
سلطنة عمان ابتعدت كثيرا عن المملكة، وتحرص على اتباع سياسة متوازنة، وترتبط مع إيران بعلاقات وثيقة، ولا يبقى للمملكة من صديق حميم سوى ملك البحرين، بحكم اعتماده على المملكة في تأمين حكمه، في مواجهة شعبه الذي يطالب بعدد من الإصلاحات، بوسائل سلمية، لكنه يواجه كل أشكال القمع والتنكيل. ووجود قوات درع الجزيرة.
المصدر الأكبر لنيران الكراهية يأتي من اليمن، التي يتعرض شعبها للقصف بكل أنواع الأسلحة كل يوم، وتتدفق منها أنهار الدماء، فلم تترك المملكة مكانًا لم تقصفه، بما فيها المدارس والمستشفيات والأسواق والطرق والمساكن وحتى دور حضانة الأطفال.
كان محمد بن سلمان يعتقد أن الحرب مع اليمن مجرد نزهة، لأن الجيش اليمني ضعيف التسليح، بينما المملكة احتلت المركز الأول عالميا في استيراد السلاح، لكنها فوجئت بإرادة الشعب اليمني، وصلابة المقاتل اليمني ومهاراته، ولم تنجح المملكة رغم استئجار الجيوش والمرتزقة من كل قارات العالم في دخول الهضبة اليمنية، وتتعرض قواتها لخسائر جسيمة كل يوم، خاصة مع انتقال المعارك إلى داخل أراضيها.
أما العراق فهو المرشح للصدام مع المملكة، التي لم تكتف بدعم الإرهابيين الدواعش الذين اجتاحوا أراضيه، ودمروا وذبحوا وفجروا وأحرقوا، وارتكبوا أشد الفظائع في التاريخ المعاصر بحق سكانه، وإنما تتدخل في شؤونه، وتحاول إشعال الفتن المذهبية، ما تسبب في أزمات دبلوماسية، مرشحة للتفاقم، فالعراقيون يحملون المملكة وزر جرائم "داعش"، والمملكة تريد عراقا ضعيفا وتابعا ومفككا، والصدام بين البلدين يكاد يكون حتميا في ظل تمادي السعودية في جرائمها ضد العراق.
الأردن لم يعد متحمسا للسير في ركاب المملكة، فهو يستشعر الخطر من المغامرات التي سيدفع جزءا من ثمنها، وقد تكلفه غاليا، سواء مع تنامي الجماعات الإرهابية داخله، أو تورطه في الحرب على سوريا والعراق، والتي لا تسير وفقا للأهواء السعودية.
أما المشاكل مع مصر فقد بدأت تطفو على السطح، رغم محاولة النظام المصري استرضاء السعودية لضمان استمرار المساعدات الإقتصادية، لكن يبدو أن المطالب السعودية من مصر تفوق قدرتها، وتلحق الضرر بأمنها القومي، ولا تريد أن تتورط في الأوحال التي تخوض فيها المملكة، خصوصا في الحرب على سوريا، التي تتعارض مع مصالح وأمن مصر، ولهذا طرح الرئيس السيسي ورقة لحل الأزمة السورية تكاد تتطابق مع رؤية كل من روسيا وإيران، وتقوم على عدم المساس بوحدة سوريا ومؤسساتها، ومحاربة الإرهاب، واللجوء إلى الحوار بين السوريين، ولم يكن هذا هو السبب الوحيد للغضب السعودي، فقد كان لشيخ الأزهر الدور الأبرز في مؤتمر غروزني، الذي استبعد الوهابية من المذاهب الفقهية السنية، وهو ما أثار موجة غضب وتهديدات تجاوزت مؤسسة وشيخ الأزهر.
أما إيران فتأتي في مقدمة الدول المستهدفة بالنيران السعودية، وهو ما عبّر عنه صراحة الامير تركي الفيصل رئيس المخابرات السعودية السابق، والذي دعا إلى إسقاط النظام الإيراني خلال رعايته مؤتمرا لجماعة "خلق" الإرهابية المعارضة للنظام الإيراني، وتكفير مفتي السعودية للإيرانيين كافة، والذين وصفهم بـ"المجوس"، ويمتد هذا العداء بالطبع إلى سوريا التي دفعت مئات آلاف الضحايا للإرهاب الذي تدعمه السعودية، ودمر الكثر من مدنها وبنيتها التحتية، وكلف اقتصادها خسائر يصعب حصرها، وكذلك تضع المملكة حزب الله في صدارة أعدائها، وتدفع الكثير لكل من يمكنه النيل من الحزب وأعضائه وحلفائه، وضغطت على أعضاء جامعة الدول العربية لوضعه على قوائم التنظيمات الإرهابية.
هكذا اتسع طوق الكراهية حول المملكة الوهابية، والقابل للإنفجار أو على الأقل سيغذي أجواء التربص والإيذاء التي تعيشها مملكة الرعب، والمرشحة لتكون ساحة لصراعات مركبة وعنيفة، ناتجة عن استعمال أموالها في التدمير والتخريب وإثارة الفتن.
طوق الكراهية الذي يحيط بالمملكة قابل للإشتعال في أية لحظة، وينتظر أي احتكاك أو أزمة حادة ليحول المملكة إلى كتلة من النيران.
حالة من الذعر تنتاب حكام المملكة من صدور قرار لمجلس النواب الأمريكي الأسبوع الماضي، يعزز قرارًا سابقًا صدر بالإجماع من مجلس الشيوخ بمنح ضحايا العمليات الإرهابية في 11 ايلول/سبتمبر حق مقاضاة الدول والشخصيات المرتبطة بالحادث، ومعظم المهاجمين من السعودية، وتم الإفراج مؤخرا عن الجزء المخفي من التقرير حول العمليات، والتي كشفت تورط شخصيات سعودية مع مرتكبي العملية الإرهابية، ولهذا تحشد المملكة كل الدول التابعة أو الصديقة للتنديد بالقرار الأمريكي، الذي لم يخفف من وطأته وعد الرئيس الأمريكي أوباما باستخدام "الفيتو" ضده، لأن "الفيتو" لا يمنع صدوره، وانما يعيد عرضه على الكونغرس للتصويت، والمرجح أنه سيلقى تأييدا كبيرا، بما يجعل أمريكا تضع يدها على الأموال السعودية في أمريكا، منها 750 مليار دولار أذون خزانة، ولن تكفي التعويض عن عدد الضحايا الهائل، منهم 3 آلاف قتيل، وأضعافهم من الجرحى والمضارين اقتصاديا ونفسيا.
توقيت القرار الأمريكي يثير الرعب لدى الأسرة الحاكمة، فلماذا بعد كل هذه السنوات يخرج ملف 11 ايلول/سبتمبر إلى العلن، ويعقبه صدور مثل هذا القانون، والذي جاء في إطار حملة دولية واسعة تدين المملكة وتتهمها بأنها وراء التفجيرات والحروب التي أشعلها التكفيريون.. هل يعني ذلك أن نهاية المملكة أصبحت وشيكة، وأن أمريكا وحلفاءها يتربصون لنيل الميراث الهائل، واستعدت أمريكا للاستحواذ على النصيب الأكبر من كنوز آل سعود؟.