kayhan.ir

رمز الخبر: 44950
تأريخ النشر : 2016September12 - 21:16

عن «المجوس» و«الشجرة الملعونة»


عبدالله زغيب ـ

طوال العقود التالية للثورة الاسلامية في ايران بقيادة آية الله السيد الخميني، واظبت الديبلوماسية النشطة في منطقة الخليج (الفارسي) شرقاً وغرباً، على إنتاج قدر مدروس، وفي بعض الأحيان «عقلاني»، من الخطابة غير المتفلتة من «الرقابة» الذاتية.

وقد تركزت هذه الرقابة على مفهوم "نهائية الشراكة" بين المكونين العربي والإيراني ضمن منظومة المصالح المفروضة بفعل الجغرافيا، كالحفاظ على هدوء الممر النفطي المشترك، والجيولوجيا كالحقول الغازية والنفطية المشتركة أيضاً. حصل هذا في ظل انخراط «جماعي» في أزمات المنطقة منذ نشأتها الحديثة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وصولاً إلى نكبة فلسطين العام 1984. وهو انخراط اتسم بمستويات متنوعة من الحدة، بحسب طبيعة المعترك وهوية الرعاة الخارجيين واتجاهاتهم. لكنه لم يتخطَّ يوماً «الخط الأحمر» الوهمي الذي ارتضى الجميع (إلى الأمس) وجوده كضمان لعدم تفلت النخب الحاكمة من عقال الممكن من خيارات السياسة وما يتبعها.

في العلاقة المباشرة بين إيران والسعودية، لم يظهر على الإطلاق وطوال العقود السابقة للحرب الإيرانية - العراقية والثورة الإيرانية قبلها، ما يشي بطبيعة «عقائدية» للتناقض في السياسة الخارجية، أو في الحوادث القليلة التي استدعت توتراً سياسياً بين الطرفين. إذ غالباً ما ارتكزت الرياض في تعاطيها مع طهران على «قاعدة» مفادها أن إيران «الشاه» تشكل قوة استراتيجية وازنة في المنظور الغربي لمنطقة الخليج (الفارسي)، خاصة في ضوء الصراع مع الاتحاد السوفياتي الساعي دوماً في ذلك الوقت للوصول إلى شريان النفط هذا. لذلك آثرت المملكة التعاطي «الحسن» مع الإمبراطورية الجارة والصديقة للعملاق الأميركي وحليفه الإسرائيلي الأصغر، متخطية في علاقاتها العامة هذه مع الدولة «الشيعيّة» الأكبر في العالم كل المحظورات «العقائدية»، مهما تسبب الأمر من خلافات داخلية مع المؤسسة الدينية السعودية، التي أخذت طريقاً مختلفاً عن بقية «المدارس» المذهبية الإسلامية منذ توحيد آل سعود لأراضي ما بات يُعرَف بالمملكة العربية السعودية العام 1932.

العلاقة زمن الشاه

تختصر الصور القليلة إنما الوافية لزيارة شاه إيران محمد رضا بهلوي للسعودية العام 1957، طبيعة العلاقة بين الطرفين في ذلك الوقت، وكذلك «هويّة» السياسة الخارجية السعودية، المتقاطعة دوماً مع «التحالف» الغربي، بمعزل عن الاعتبارات التي تدخل في وارد الموروثات الثقافية. حيث يظهر الشاه وهو يمارس حزمة من «الشعائر» المحرّمة وفقاً للمدرسة الدينية الملتصقة بـ «بيت الحكم» السعودي، كزيارة قبور «الأئمة» في مقبرة البقيع، وكذلك قبور عدد من «الصحابة»، إضافة إلى زيارته لضريح النبي في المدينة المنورة، ما يعني أن الضيف الـ(VIP) لم يخضع للإضبارة «الشعبية» في التصدير «العقائدي العام»، التي تعبّر عنها الخطابة الدينية والسياسية للمملكة، الموجهّة للجمهور الداخلي ومعه «الإسلامي». علماً أن تحركات الشاه في الداخل السعودي واكبها ترحيبٌ من الملك السعودي الحالي سلمان بن عبد العزيز وهو يرقص احتفالاً بالضيف الإيراني «الإمبراطوري»، ضمن «العرضة» التي عادة ما تعبّر عن أعلى درجات التقدير والاحترام لضيوف المملكة.

لا تحظى إيران اليوم بالهالة ذاتها التي كانت تعمل تحت ظلها في المنطقة إبان حكم الشاه. فالأمور أخذت اتجاهات شديدة الحساسية، خاصة بعد انتصار الثورة الإسلاميّة وما عناه ذلك من انتقال قياسي من تموضع إلى آخر، فرض سلة جديدة ومتكاملة من الأصدقاء والأعداء والانخراطات الخارجية. حيث أصبحت الجمهورية الإسلامية الوليدة هدفا ًمباشراً للخطابة الأيديولوجية السعودية، فور إيضاح خطاب الامام الخميني للوجهة السياسيّة التي سارت إيران نحوها. وهذا ما ظهر في الحرب الإيرانية - العراقية التي شهدت «تحشيداً» سعودياً منقطع النظير لما سوّقته وقتها من «تصدير» للحرب على أنها صدام كوني بين السنّة والشيعة بأدوات عربية وفارسيّة. وهذا ما لم يسوّقه العراق ذاته، حيث امتنع طوال سنوات الحرب عن إنتاج خطابة مذهبية تلاقي السعودية، محافظاً على أدبياته «البعثية» الخاصة، التي اتسمت بتصنيفات قوميّة «جارحة».

«مؤتمر غروزني»

جاءت الانعطافة الجديدة في الصراع لتعلن مرحلة جديدة متفلة من محاذير الماضي البعيد والقريب. لكنها لم تكن حالة مارقة أو خارجة عن نسق الحدث المكوّن لسلسلة أزمات المنطقة. إذ تُعَدّ «تكليلاً» وإعلاناً رسمياً من الجانبين لوصول الخطابة السياسية إلى ذروتها، ما يفتح المنطقة على احتمالات جديدة متنوّعة. إلا أن العامل الأساسي الذي مهّد لنقل ايران الخلاف إلى المستوى العقائدي، يعود إلى تلقف إيراني لمنتجات «مؤتمر غروزني» لأهل «السنّة والجماعة»، وما وصل إليه المشاركون من مواقف تعتبر «السلفيّة» رأس «الشرور» العقائدية داخل الدين الإسلامي. حصل هذا بمعزل عن تمثيل السلفية النقطة المرجعيّة الأساسية للمؤسسة الدينيّة في السعودية، حيث آثر المؤتمر إقصاءها من «الملّة» متهماً إياها بممارسة التكفير والإرهاب ورعايته ونشره والدفاع عنه، ما يعني إعلاناً مباشراً للحرب «الفكرية والمنبريّة» على «السلفيّة»، بحسب قراءة المؤسسة الدينية في الرياض.

يدخل الكلام الأخير للمرشد الإيراني آية الله علي خامنئي في وارد صناعة تقاطع غير «طبيعي» والتقاء «قسري» مع أدبيات «مؤتمر غروزني». فقد انطلق القائد الإيراني من أن فشل التفاوض حول موسم الحج مع السعوديين، إضافة الى حلول الذكرى الأولى لحادثة منى، يشكلان مدخلاً طبيعياً لإحداث تغيير جوهري في مخاطبة المملكة العربية السعودية، بالتوازي أو بعد أيام من إدانة المدرسة السلفيّة من قبل جمع من علماء الدين المسلمين وفي مقدمهم نخب الأزهر المصري. وهذا قد يشكّل من وجهة النظر الإيرانية فرصة تاريخيّة لشن «حرب» علاقات عامة دوليّة ضد الرياض، ارتكازاً على ما استشعرت طهران أنه إجماع «إسلامي» على إدانة السلفيّة كمدرسة منتجة للتكفير من وجهة نظر المشاركين في غروزني وكذلك الحوزة العلميّة في إيران، وفي ظل أجواء دوليّة تذهب باتجاه التركيز على مكافحة الإرهاب كأولويّة تسبق الأجندات السياسيّة.

الحروب المنبرية

شكّل الردّ السعودي الأوليّ عبر مفتي المملكة الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ توكيداً مباشراً لما ذهب إليه المرشد الإيراني وقبله «مؤتمر غروزني»، على مستوى نوعيّة الخطابة العقائدية. إذ قام بإخراج الإيرانيين من «الدين» واصفاً إياهم بأحفاد «المجوس»، ليمارس من حيث لا يدري مهمة «تكفيرية» في الوقت والزمن غير المناسبين، وبما لا يخدم صورة المملكة التي تتعرّض لعمليّة تظهير جديدة، تلاقي الطبيعة «الوظيفيّة» للمؤسسة الدينية السعودية. لكن المملكة حاولت في الساعات التالية لكلام مفتيها وبعد وصول الرسالة إلى الفئة المجتمعيّة المطلوبة، إعادة لملمة منابرها وتوجيهها سياسياً بما يخدم حقيقة الصراع القائم، المرتكز على أجندات سياسية واستراتيجية تختلط فيها الحسابات الإقليمية بالدولية، وبما لا يظهر المملكة على شاكلة التنظيم العقائدي المارق، كما فعل الشيخ عبد العزيز من دون أن يدري.

خرج وزير الخارجية السعودي عادل الجبير ليعلن أن السعودية مملكة لا تقودها «الأيديولوجيا»، وأن ما سماها «البراغماتية» هي التي تشكل البوصلة الحقيقية لمسار السياسة والديبلوماسية في الرياض، ما يعني عملياً محاولة للالتفاف على كلام القيادة الايرانية وكذلك المفتي. فخطاب آل الشيخ كان منتجاً خاصاً بالمدارس الدينية وبعامة الجماهير العربية والإسلاميّة، فيما يتولى الجبير الحديث إلى الرأي العام الدولي والغربي تحديداً، لإظهار الجانب السياسي في الصراع مع إيران. لكن الواقع على الضفة الأخرى لا يشي بأمور مختلفة. فالقيادة الإيرانية على ما يبدو تحاول، من خلال الاتهام «العقائدي» للرياض، خلق أدوات «دعائية» تنفع في منابر الديبلوماسية وعضلات الإعلام المصاحب، للضغط على السعودية بقصد دفعها نحو انكفاء جزئي عن بعض انخراطاتها، خاصة في اليمن وسوريا. وهذا يلاقي ضغطاً أميركياً في هذا الاتجاه، وفي تحضيرٍ على ما يبدو لصراع مقبل، عنوانه محاسبة المملكة بالحد الأدنى على رعايتها وحمايتها للمدرسة الدينية المنتجة للظواهر الراديكاليّة.