طموحات الأكراد قد تسرِّع في تطبيع العلاقات السورية التركية
سركيس ابو زيد
أفرزت التحولات الكبرى في المنطقة بدءًا من الاحتلال الأميركي للعراق وصولا الى بروز تنظيم "داعش" مرورا بتفجر الحرب السورية، عوامل كانت خامدة أنعشت بنتيجتها الطموحات والأحلام الكردية "الانفصالية" وأيقظت المارد الكردي وأخرجته من القمقم الإقليمي، ليصبح "العامل أو اللاعب الكردي" أساسيا فيما يجري في العراق وسوريا وتركيا.
في العراق، كلما تقدمت قوات "البشمركة" في المناطق المتنازع عليها التي يسعى الأكراد لضمها الى إقليمهم، تصاعدت مطالبتهم بالاستقلال والانفصال عن العراق بعد تعثر تجربة الشراكة مع بغداد. ولكن ظروف قيام دولة كردستان والآليات المتبعة لبقائها غير متوافرة بسبب:
- غياب عناصر الوحدة السياسي.
- عدم وجود علاقة طيبة مع الجوار وعلاقة جيدة مع الحكومة المركزية في بغداد.
- عدم توافر الإمكانات الأمنية والاقتصادية في هذه المرحلة الصعبة.
- خضوع أكراد العراق لتأثيرات واستقطابات إقليمية ودولية.
في تركيا، بعد الانقلاب الفاشل والتفجيرات الإرهابية. وجد أردوغان فرصة مناسبة لعملية تصفية حسابات شاملة ليس مع خصمه غولن فحسب والكيان الموازي الذي أقامه داخل الدولة التركية، وإنما أيضا مع الأكراد الذين يتهمهم بأنهم حلفاء غولن ويكملون ما بدأه.
مصادر سياسية تركية قالت إن "الذين فشلوا في وقف تركيا عبر المنظمة الإرهابية لغولن، سيحاولون الآن عبر الكردستاني وتنظيمات أخرى، وأن الذين فشلوا في محاولة الانقلاب لن يقرّوا بهزيمتهم ولن ييأسوا"
أما في سوريا، فقد استهدفت الغارات السورية ستة مواقع على الأقل للقوات الكردية في مدينة الحسكة في شمال شرقي سوريا. وهذه المرة الأولى التي يستهدف فيها الطيران السوري مواقع تحت سيطرة الأكراد، منذ بدء النزاع في سوريا العام 2011 .
هذا الاشتباك العسكري بين الجيش السوري والقوات الكردية له أسباب وخلفيات سياسية، وهو انعكاس عملي على الأرض للاتفاق الحاصل في المثلث التركي- الإيراني - السوري على محاصرة المشروع الكردي في سوريا ومنع قيام كيان مستقل في منطقة الحدود السورية التركية.
ھذا ھو الثمن الأساس الذي تطالب به تركيا، وفي المقابل هي تبدي استعدادا للانخراط في الحرب على الإرهاب وإقفال حدودها أمام التنظيمات المصنفة إرهابية، ولوضع مسألة الرئيس بشار الأسد جانبا والكف عن الدعوة الى رحيله في هذه المرحلة على الأقل.
فالتطورات في سوريا أخذت طابعا دراماتيكيا على المستويين السياسي والعسكري، والمشهد يعاد رسمه وتدخل عليه تعديلات كل شهر وكل أسبوع. فبعد التدخل العسكري الروسي، يحدث الآن تدخل تركي مباشر وعلني بعدما كان حاصلا في السنوات الماضية بشكل سري وعبر تنظيمات وقوى المعارضة الإسلامية. هذا التدخل التركي هو ثمرة أولى من ثمار المثلث الجديد الروسي- الإيراني- التركي والذي ينسق عن بعد مع الولايات المتحدة.
إذاً، العنوان الرسمي للتدخل التركي هو تنظيم "داعش"، والهدف المعلن منه هو إخراجه من كل منطقة الحدود السورية التركية وقطع آخر صلاته مع العالم الخارجي. ولكن العنوان الفعلي هو الكيان الكردي، والهدف هو إجهاض مشروع هذا الكيان الذي برزت معالمه وحقق تقدما ولم يكن ينقصه إلا عملية الربط بين جرابلس وعفرين بعدما تم تحرير منبج.
في جرابلس تم دفن حلم الاكراد بالكيان المستقل
ولكن، انتقال أردوغان الى سياسة الهجوم وباتجاه الملف السوري أحدث مفاجأة خالفت التوقعات التي سادت بعد الانقلاب التركي الفاشل وشككت في قدرة تركيا على التحرك الخارجي في ظل الانشغال الداخلي بإعادة ترتيب البيت وتركيز دعائم السلطة، لا بل عملية إعادة بناء الدولة، وحيث أن تركيا ستكون في حاجة الى وقت لتعود وتقف على قدميها وتمارس دورها كقوة إقليمية. والذي حصل أن أردوغان حول الأنظار عن أزمته الداخلية وقرر الخروج الى سوريا لشد عصب الجيش والرأي العام.
خبراء ومحللون رأوا من هذه العملية أهدافاً ورسائل سياسية وعسكرية، هي:
1- المواجهة هي مع "داعش" لكن الرسالة هي لحزب "الاتحاد الديموقراطي الكردي" في سوريا.
2-إخراج "داعش" من المعادلة الحدودية بين تركيا وسوريا.
3-فتح الطريق أمام منطقة عازلة في جرابلس ومحيطها في بقعة جغرافية يصل مداها الى 90 كلم مربع.
4-منع الطيران السوري الاقتراب من هذه المنطقة بتوفير غطاء حماية جوية دولية لها.
5-إعادة الوحدات الكردية الى شرق الفرات وإخراجها تحديداً من منبج بعد الضمانات الأميركية المقدمة لأنقرة في هذا الشأن.
6-فتح الطريق أمام قوات المعارضة السورية" المعتدلة" لالتقاط أنفاسها في المعادلات العسكرية الداخلية في سوريا بعدما مالت الكفة تماماً لمصلحة الوحدات الكردية وتنظيم "داعش".
7-وقف حركات اللجوء الى الداخل التركي عبر مناطق الحدود التركية السورية.
8- تأمين إيصال المساعدات الى النازحين السوريين في المنطقة الآمنة الجديدة داخل سوريا بغطاء عسكري دولي.
9-تحريك فرص المفاوضات السياسية في الملف السوري داخليا وإقليميا، وفتح الطريق أمام المرحلة الانتقالية الحقيقية في سوريا بلا "داعش" وفي إطار حصة أكراد سوريا حسب قوتهم السكانية والجغرافية والسياسية الحقيقية في البلاد.
10-تعطيل مشروع الفدرالية أو الكونفدرالية الكردي الذي يحاول حزب "الاتحاد الديمقراطي" فرضه مستفيداً من الظروف والأجواء ومن دون مناقشة هذه المسألة الدستورية مع شرائح المجتمع السوري، بل بالتنسيق مع واشنطن وموسكو.
إذن، الكردي هو المستهدف الأول في العمل العسكري أما الأهداف الأخرى بعد جرابلس، فلن تتضح سوى بعد انجلاء غبار المعركة الاستعراضية الحالية. و"الكانتون الكردي" الافتراضي، والذي تأججت نيرانه من الحسكة قبل أيام، تعرض الآن في جرابلس الى عملية إجهاض قاضية.
ومن الواضح أيضاً أن خطب ود أنقرة يستدعي قبول نفوذها في شمال سوريا، وهو ما أوحت به روسيا وإيران، وما باشرت تركيا بممارسته في منطقة جرابلس التي طالما اعتبرتها خطا أحمر لأمنها القومي، سواء لضرب "داعش" وطرده منها، أو لمنع الأكراد من الوصول الى عفرين، غرب الفرات، تحت غطاء "قوات سورية الديموقراطية". لكن، هذا لا يعني أن روسيا وإيران والنظام السوري تخلوا عن هدف استراتيجي آخر هو إضعاف المعارضة السورية، بل تصفيتها للتمكن من فرض حل سياسي بشروطهم.
أما الموقف الأميركي فقد جاء داعماً بوضوح للعملية التركية، سواء من خلال الغطاء الجوي الذي أمنه التحالف الدولي أو عبر تصريحات نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الذي زار تركيا مؤخراً.
تدخّلْ تركيا عسكريا وعودتها بقوة الى المشهد السوري شكل، مثل تدخل روسيا قبل عام، نقطة تحول في مسار الحرب والأحداث وطرح الكثير من التساؤلات أولها ما يتعلق بالجهة الدولية الحاضنة لهذا التدخل ومن أين جاء الضوء الأخضر من روسيا وإيران أم من الولايات المتحدة؟!
ما هو واضح أن أردوغان يبدل في تحالفاته ومقاربته للأزمة السورية، وأن قلق تركيا من خطر نشوء كيان كردي على حدودها الجنوبية دفعها نحو إعادة النظر في أولوياتها السورية.
والخاسر من هذا التطور، هم الأكراد، وهي خسارة مقتطعة من سلة الأرباح المحققة، ومن دون أن تنهي طموحهم الأكبر. نعم جرعة القوة الزائدة دفعتهم الى التحرك بما يفوق قدراتهم ويتجاوز الإمكانات المتاحة أمامهم أميركياً في الظرف الحالي، فكان رد الفعل التركي برضى أميركي، للحد من هذه الطموحات.
التفاهم الأميركي- التركي لم يسقط المشروع الكردي بأكمله لكنه أعاد صياغته. يشي الموقف الأميركي تجاه النزاع الكردي التركي بأن واشنطن مارست خلال الاسابيع الماضية الشيء ونقيضه. فهي قادت الأكراد الى خرق الخط الأحمر التركي في سوريا، والآن تضغط عليهم لاحترامه وتربط ذلك باستمرار مساعداتها لهم. ويدشن بايدن صفحة تعاون جديدة مع أردوغان في سوريا انطلاقاً من تغطية هجومه على جرابلس ودعم خطوطه الحمر السورية، وإنشاء معادلة تخدم استمرار اعتمادها على الأكراد كجيش بري لها في سوريا، وخصوصاً في معركتها المقبلة لإخراج تنظيم "داعش" من الرقّة الواقعة شمال خط الفرات، وإبقاء تركيا في مربع حلف "الناتو" وتوجاته، وكسر استثمار إيران وموسكو في خوفها من وجود مشروع سري أميركي لمصلحة أكراد سوريا.
وبالتالي فإن واشنطن أعادت هندسة الميدان في شمال سوريا؛ حيث يعود الأكراد الى مربع شرق الفرات بضمانات أميركية، فيما تركيا تشحن نفوذها بغطاء التحالف الدولي في مناطق غربه المتاخمة لحدودها. أما حلب عاصمة شمال سوريا وأم معاركه الإقليمية والدولية فتدخل في "ستاتيكو استنزافي" للمحور الروسي والإيراني والسوري.
باختصار، الأكراد الذين سنحت لهم فرصة ذهبية يواجهون خطر ضياعها ليتأكد مرة جديدة "سوء طالعهم التاريخي" ووقوعهم دائما ضحية مصالح إقليمية بين دول المنطقة التي تختلف فيما بينها على أشياء كثيرة ولكنها تتفق عليهم وعلى الحؤول دون قيام كيانهم الخاص أو دولتهم المستقلة.
هذه التطورات قد تمهد لتطبيع العلاقات السورية التركية وفق حركة الصراع في الميدان المواكبة لتفاهمات إقليمية ودولية بدأت تظهر في المحافل الدولية واللقاءات الجانبية .