أوروبا تُلزم بريطانيا بعواقب الجنون: طلاق صعب.. لزواج فاشل!
وسيم ابراهيم
تعمل أوروبا الآن كخلية أزمة لاحتواء أضرار الاستفتاء البريطاني. المصيبة السياسية وقعت. لا يخرج منها شفقة ولا رثاء تجاه مصير رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون. حين تختار أن ترمي قطعة نقد، لتتركها تحدد شيئاً مصيرياً في حياتك، علاقة زواج مثلاً، فيجب ألا تتفاجأ إن لم تقع على الوجه الذي كنت تفضله. هذه مقامرة كبرى، لذلك فاصطناع المفاجأة يبدو في غير مكانه، خصوصاً إن كان القاصي والداني يتمنى عليك التحلي بالحكمة، وإعادة قطعة النقد إلى جيبك، كما يفعل الكبار حينما يمكنهم الجلوس على طاولة المفاوضات بدلاً من الاحتراق أمام ماكينات الكازينو السياسي.
لم يفعل كاميرون هذا الأمر. بريطانيا على مسار الخروج من الاتحاد الأوروبي: أمام مخاطر تفكّكها، وسط خسائر اقتصادية كبيرة، غير انعدام الأفق إلا أمام القادم الأسوأ في علاقتها مع ظهرها الاقتصادي. جنون الديموقراطية مستمرّ هناك، فما يبدأ بمقامرة ليس غريباً أن يصل حد الهذيان.
بروكسل تحضّر ردها السياسي. خريطة طريق للخروج من المأزق البريطاني، خلال قمة لزعماء الاتحاد من دون نظيرهم السابق. واشنطن تسارع للتخفيف من وقع المصيبة، موفدة وزير خارجيتها جون كيري للحديث اليوم مع طرفَي العلاقة.
لكن قبل كل شيء، لا مؤشرات على انفراج أمام المشكلة الأولى: متى تبدأ عملية إجراءات الطلاق؟ كاميرون طلب أشهراً حتى يجهّز حزب المحافظين حكومة جديدة، والأوروبيون يريدون أن تبدأ العملية سريعاً. المسألة معلقة، ومرهونة بنجاح الضغوط السياسية، فلا قدرة ولا إمكانية لإجبار لندن على إرسال طلب الانفصال. المعاهدة الأوروبية تتحدث عن شيء واحد هو «الانسحاب»، بعد بلاغ صريح من الدولة الراغبة به، لذا لا مجال قانونياً لعملية «طرد».
الوضع صعب بالطبع، اسألوا بروكسل عن ذلك. أعطت عاصمة الاتحاد الأوروبي إشارة صارمة في رفض التلاعب أو المماطلة السياسية. عيّنت الديبلوماسي البلجيكي ديدييه سيوز، المخضرم بتعقيدات التفاوض الأوروبي، ليكون رئيس فريق التفاوض مع لندن. رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر كان صريحاً، حتى أكثر من اللازم، حينما قال أقرّ بأن «الطلاق لن يكون ودياً»، مذكراً بالأساس أن ما يوشك على الانتهاء «لم تكن علاقة حب قوية».
سألنا أحد المقربين من يونكر، هل نام فعلاً ليلة الاستفتاء؟ قال بابتسامة عريضة «لقد نام بشكل جيد جداً، لا تقلقوا عليه». مَن استمع لما قالته تلك الصخرة السياسية، قبل الاستفتاء البريطاني الخميس الماضي، كان يمكنه التساؤل إن كان يونكر يقرأ بالغيب. المقرّبون منه يؤكدون أنه لم يكن يتوقع نتيجة الموقعة، رغم أنه قال مستبقاً إياها «لا تفاوض ولا إعادة تفاوض، الخروج يعني الخروج».
لماذا هذا الكلام مهم؟ لأن عروض السيرك السياسي البريطاني لم تتوقف. مع الأفق القاتم، من أي جهة كانت، تثار الآن سيناريوات اجتراح حلول إنقاذية. الاستفتاء قال كلمته، لكنه يحتاج مصادقة البرلمان، مع غالبية فيه تدعم البقاء في العائلة الأوروبية. يمكن للبرلمان عدم المصادقة، تجاهل التغليب الشعبي، فلا قانون يُلزمه، والقول إنه سيحترم الإرادة الشعبية بالسعي إلى علاقة أفضل مع بروكسل.
لكن المسؤولين الأوروبيين يُشيعون أن ذلك غير وارد. ليس فقط لأن مصداقية وأهلية الحكم البريطاني ستكون مهدّدة، بل أيضاً لأن بروكسل رفضت سلفاً التعاطي مع مناورة سياسية كهذه؛ بمعنى الذهاب إلى الاستفتاءات للاستقواء بها داخل غرفة تفاوض العائلة الأوروبية. رسالة يونكر كانت تؤكد ذلك «لا تفاوض ولا إعادة تفاوض، الخروج يعني الخروج».
كانت اليونان، على الاختلاف الكبير، مثالاً على ذلك. وقتها جاء زعيمها أليكسيس تسيبراس رابحاً استفتاء بغالبية كبيرة، ليعيده الأوروبيون إلى أثينا خائباً بصفقة أسوأ. ربما من المفيد التذكير أن ألمانيا لا تحبّ الاستفتاءات. دستورها يسمح بالاستفتاء في حالتين، الأولى في حالة سَنّ دستور جديد، وهنا لم يستخدم حتى خلال توحيد الألمانيتين، والثانية في حالة تغيير وضع الولايات، واستخدم مرتين في عمليتي توحّد ولايات.
المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل نفسها أظهرت مرة تحفظها الشديد على أن يبتّ الشعب مباشرة بقضايا مصيرية. حينما زارت أحد نُصُب المحرقة اليهودية، كتبت في سجل الزوار، «بما أنك لن تعرف أبداً إن كان الناس سيصيرون بمرور الوقت أكثر معقولية، فيجب أن يبقى النظام السياسي الألماني كما هو».
كلام مفيد في اللحظة السياسية التي مثلها الاستفتاء البريطاني. ما ساد كانت حالة غياب العقل. استعرت حملة التهييج بالنسبة لقضية الهجرة واللجوء، مع إطلاق أنواع التخويف كلها، معطوفة على التهديد الإرهابي. العاملان كانا حاسمَيْن في الاستفتاء، بعدما استخدما لإثارة العصبية الوطنية البريطانية مع تاريخ من التعالي على باقي أوروبا.
لم يُخفِ الأوروبيون حنقهم من مبادرة كاميرون تلك. هل حكّم البريطانيون عقلهم؟ الغالب أن عواطفهم، أو للدقة «أنفتهم»، هي التي صوّتت. الخلاصة كانت واضحة في الإحصاءات التفصيلية للتصويت. الغالبية العظمى من مؤيدي الخروج (70 في المئة تقريباً) لم ينهوا دراستهم الثانوية، مع نسبة كبيرة من المتقدّمين في السن، على نقيض مؤيّدي البقاء.
مع وضع كهذا، ذهبت السكرة وحضرت الفكرة. انتشرت قصة «الندم»، مع حالات كثيرة تقول إنها لم تكن تعرف الحقائق وتفاجأت بالتداعيات. أكثر الأسئلة تداولاً على محرك البحث «غوغل» في بريطانيا، بعد الاستفتاء، كان «ما هو الاتحاد الأوروبي». هل يمكن أن يصوّت من سيعيشون سنوات ليحكموا مستقبل مَن سيقضون عقوداً مع تداعيات النتيجة؟ بعض مَن أكلوا «الحصرم» قالوا فوراً هذا غير منطقي، نادمون الآن، فأبناؤهم وأحفادهم هم من سيدفعون الثمن.
ما يجري أقرب إلى جنون ديموقراطي موصوف. أكثر من ثلاثة ملايين يوقعون عريضة، يطالبون بإعادة الاستفتاء على اعتبار أنه يحتاج من الفائز وصول 60 في المئة مع معدل تصويت 75 في المئة، وهي نسب لم يصلها الاستفتاء المنقضي. لكن المفارقة أن هذه المبادرة لم يطلقها أساساً مؤيدو «البقاء»، بل أنزلها في موقع البرلمان البريطاني ناشط مؤيد لحملة «الخروج»، قبل الاستفتاء، وكان يريدها تكتيكاً في حال خسروا.
الآن يحتج هذا الناشط بأن حملة البقاء قامت بـ «السطو» على مبادرته. لكن يفيد التذكير أن أحد أبرز قادة حملة «الخروج»، رئيس «حزب الاستقلال» نايجل فاراج، أعلن استباقاً أيضاً أن فوز «البقاء» بنسبة صغيرة لن يعني الحسم، الذي يحتاج برأيه الفوز بالثلثين. تلك الحجة تبخّرت الآن لديه، مثل باقة التلاعبات والمبالغات من بعبع الهجرة واللجوء إلى تمويل بروكسل إلى حصانة الاقتصاد.
الهذيان الديموقراطي سلسلة. أيرلندا الشمالية واسكتلندا تفضلان الاستقلال والبقاء في الاتحاد الأوروبي، رافضتان تحمُّل تكاليف باهظة تقرّها عليهما غالبية انكلترا مع ويلز. حكومة اسكتلندا تهدّد بـ «الفيتو» ضد الخروج، مستثمرة صلاحيات أعطاه زخم استفتاء الاستقلال الذي خسرته بفارق طفيف أيضاً. «حزب العمال» يضع زعيمه جيريمي كوربن تحت ضغوط كبيرة للتنحي، بعد انتقادات شديدة لقيادته الفاترة لحملة «البقاء» في أوروبا.
التكتل الأوروبي من جهته يمضي إلى مبادرة طوارئ. صحيح أن ميركل قالت إنه لا يجب فرض العجلة على بريطانيا، لكنها أيضاً بيّنت أن الأمر لا يجب أن يطول. تركت لوزير خارجيتها فرانك فالتر شتاينماير أن يقول «بأسرع وقت ممكن»، خلال اجتماع مع نظرائه للدول الست المؤسسة للاتحاد الأوروبي. ميركل تلتقي نظيرَيْها الفرنسي والايطالي، مع رئيس المجلس الأوروبي، ليصيغوا مبادرة أوروبا «الجديدة».
التقديرات تختلف، ومراكز الأبحاث تعتصر عقولها: من يرون أن الطلاق يعطي قوة الدفع لمزيد من الوحدة، آخرون يعتبرون أن الأجواء السياسية لا تسمح، مع صعود اليمين المتطرّف حاملاً شعارات «أوروبا أقلّ وليس أكثر». لكن الواضح أن الاستراتيجية، وفق ما تحدّث وزراء الدول الست، لها مستويان. حزمة إجراءات للمدى القصير، تمتص التململ الشعبي: مواصلة التشدد مع تدفقات اللاجئين، تعاون أمني أوثق لمواجهة التهديدات الإرهابية، مبادرات لخلق الوظائف وتحريك النمو.
أما على المدى الطويل، فالمراد بعث رسالة واضحة أن أوروبا متماسكة وقوية، ستتجاوز المصيبة البريطانية وتداعياتها. ثمة تباينات حول التسمية، فرضها انتشار المتشككين، هل هي «أوروبا أكثر»، أم «أوروبا أفضل»؟ المخاض بدأ، ومع اختلاف التسميات لا يبدو أن الأوروبيين مستعدون للتضحية بمشروع وحدتهم، بعد الاستثمار الهائل فيه ومنافعه الأكيدة.