kayhan.ir

رمز الخبر: 40542
تأريخ النشر : 2016June21 - 18:27
المشهد التركي

تركيا بين فكي الكماشة الأميركية ـ الروسية

محمد نور الدين

تبحث تركيا بالشمعة عن مخارج تتيح لها استعادة بعض التأثير المباشر في الأزمة السورية، وتالياً العراقية. وهي تقع بين فكي كماشة محور الولايات المتحدة الداعمة للأكراد ومحور روسيا ومعها إيران وسوريا.

من المفترض أن يكون مكان تركيا الطبيعي في المحور الأميركي ـ الغربي، لكن العامل الكردي يحول دون التموضع الكامل لأنقرة في هذا المحور.

الأكراد مستفيدون من الدعم الأميركي لهم في سوريا. الفرصة متاحة لهم لتحقيق ولو بعض أحلامهم وأهدافهم في كيان يحقق لهم هويتهم الثقافية، وربما السياسية، وبالتالي الجغرافية. الأكراد المضطهدون في كل منطقة الشرق الأوسط لن يترحموا على كل الأنظمة التي تناوبت على إنكار هويتهم، منذ الحرب العالمية الأولى وحتى اليوم.

لذا هم تحالفوا مع الغرب في العراق لينالوا فدراليتهم، وهم يسعون لترجمة ذلك أيضاً في سوريا. أما في تركيا فإنهم يأملون أن يأتي الدور وتسنح الظروف يوماً ما.

أما الولايات المتحدة فهي أيضا تستفيد من الورقة الكردية للعبة أكبر من الأكراد، وتطال منطقة الشرق الأوسط كلها. وهنا كان الافتراق في الموقف بين تركيا والولايات المتحدة. وهو افتراق في قضية مصيرية لتركيا، لأنها تدرك جيداً أن المشكلة الكردية في الشرق الأوسط متداخلة، ولا يمكن فصل تطوراتها في بلد عن واقعها في بلد آخر. وتتفاقم التأثيرات في حال كان الواقع الكردي في بلد ما، مثل تركيا، ضاغطاً ومتفجراً.

الكرة في الأساس تقع في الملعب التركي، لأن الأكراد فيها لم يُعترف بهم وبهويتهم، وهم اليوم أكثر من 12 مليون نسمة، بل وُوجِهوا بأكبر حملة إنكار وصهر عرفتها "أقلية” في بلد معاصر. وحين لا تجد الأقلية مكاناً لها، عادلاً ومتساوياً، في النظام والمجتمع فلا يبقى أمامها سوى خيارات صعبة بين الرضوخ والذل وبين التمرد والسعي للانفصال. ولقد فضل أكراد تركيا الثورة على الخضوع، وهم لا يزالون يخوضونها منذ عقود وعقود.

وفي ظل استمرار الذهنية الإنكارية لأنقرة تجاه أكرادها، وفي ظل الفوبيا من الوضع الكردي في شمال سوريا، لا يمكن أن ننتظر من تركيا أن تقف وتقول إنها موافقة على ما يجري في سوريا، أو إنها غير معنية بما يجري هناك. لذلك فإن اعتراضها على المسار الكردي في سوريا يجعلها تلقائياً خارج التحالف الضمني مع واشنطن، وهو مقتلها في الوقت نفسه، لأنها غير قادرة على القيام بما يتعارض عملياً مع الخطط الأميركية في سوريا والمنطقة، إلا في حال قرارها اعتماد خيارات إستراتيجية قوية نقيضة، لا يبدو أن تركيا راغبة أو قادرة عليها.

مع ذلك تحاول تركيا أن تخرج من الشرنقة التي وجدت نفسها فيها بعد خمس سنوات من سياسات تجاه سوريا، أقل ما يقال فيها إنها عديمة البصيرة وقصيرة النظر، وتتغلب عليها الأحقاد والأوهام، فانتهت إلى ما انتهت إليه من مخاطر إستراتيجية على تركيا، سواء في علاقتها مع أكرادها وأكراد المنطقة أو مع المكونات الأخرى في المنطقة، ولا سيما الفضاء الحضاري العربي إلى الجنوب. وهذا يتعدى طبيعة الأنظمة القائمة من ملكية أو جمهورية أو أميرية أو "إخوانية” أو عسكرية.

تحاول تركيا، أولاً أن تناور بإيهام واشنطن أنها تؤيد عملية تحرير منبج وما يليها، قائلة إن "قوات سوريا الديموقراطية” معظمها من العرب والتركمان فيما الأكراد فيها أقلية، لتبرر عدم معارضتها للتقدم في منبج. لكن تركيا تعرف تماماً أن قيادة هذه القوات هي بيد الأكراد، وهم الذين يتحكمون بمسارها. بهذا التبرير تحاول تركيا أن تنال بعضاً من الكعكة، حتى لا تخرج من المولد بلا أي مكسب. لكنها تعرف أن نهاية هذه العملية، إن نجحت في الوصول إلى نهاياتها، هي وصل كانتون عين العرب (كوباني) بكانتون عفرين لتكون حينها خسارة تركية صافية.

تسعى تركيا، في سيناريو ثان مواز، أن تفتش عن حلفاء جدد، فلا تجد سوى عاجزين عن نجدتها، وكل منها مشغول بمحيطه الجيوبوليتيكي من الخليج (الفارسي) إلى المحيط.

تحاول تركيا في سيناريو ثالث أن تستعيد بعضاً من علاقاتها مع دول اختلفت معها، ولا تقع في المحور الأميركي. تلوح بعلاقات بديلة عن الغرب، كما فعل مرة الرئيس رجب طيب اردوغان بالقول إنه يريد ترك أوروبا والانضمام إلى منظمة "شنغهاي”.

اليوم تتكاثر الإشارات التركية حول الرغبة في عودة العلاقات مع روسيا تحديداً. لا مشكلة لتركيا مع إيران. العلاقات الثنائية بينهما ممتازة، والسياح الإيرانيون يتدفقون إلى تركيا في ذروة تراجع الموسم السياحي التركي وامتناع السياح الروس والألمان والإنكليز عن القدوم إلى تركيا. ربما لا يملأ السياح الإيرانيون البلاجات البحرية لكنهم يأتون إلى المدن.

مشكلة تركيا هي مع روسيا. قبل أسبوعين تقريباً تحدث أردوغان عن خطأ ارتكبه الطيار التركي في إسقاط الطائرة الروسية فوق سوريا. كانت رسالة أولى.

بالأمس أعلن أن أردوغان، كما رئيس الحكومة بن علي يلديريم، وجها رسالة إلى نظيريهما الروسيين فلاديمير بوتين وديمتري ميدفيديف لمناسبة العيد الوطني لروسيا. تمنى أردوغان، في رسالة التهنئة، أن تعود العلاقات إلى المستوى الذي يجب أن تكون عليه. كانت رسالة تودد ثانية.

لكن على أي أسس يمكن لروسيا أن تهرع لتنقذ الغريق التركي من أمواج الأخطاء والأوهام؟ وما الذي يضمن ألا يعود التركي، كعادته، في لحظة تخل، إلى الحضن الأميركي كاملاً بعد أن تمر المرحلة بأقل الخسائر؟

يفترض ألا يقبل الروسي، بعدما عجز الإيراني، بأن يمد طوق النجاة لأردوغان إلا بعد أن تتغير السياسة التركية، في سوريا تحديداً، في اتجاهات أقلها وقف دعم أنقرة للمعارضة ووقف إرسالها للأسلحة والإرهابيين إلى شمال سوريا، ولا سيما محيط حلب وإغلاق حدودها.

لروسيا مصالحها وزاوية نظرتها الخاصة إلى الأمور، لكن بعد التباين في الموقف من وقف النار ورهان روسيا الخاطئ على نتائجه وانقلابه لغير مصلحة محور المقاومة، وتحميل إيران وسوريا لروسيا النتائج السلبية المستمرة لوقف النار، فإن اجتماع طهران لوزراء دفاع إيران وسوريا وروسيا يفترض أن يعيد تصحيح الخطأ الروسي وتوحيد النظرة إلى كيفية التعاطي مع الوضع الميداني. وهذا من نتائجه لجم روسيا عن ارتكاب أخطاء جديدة، ومنها التجاوب مع الرغبة التركية الجديدة في تطبيع العلاقات مع روسيا، من دون تحديد أثمان عملية لهذا التطبيع.

على ما يبدو فإن روسيا ربما أخذت العبرة من التباسات وقف النار. إذ كرر المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أن رسالة تهنئة أردوغان إلى بوتين تفرضها الأعراف الديبلوماسية الدولية في مثل هذه المناسبات، وبالتالي فإن تحسين العلاقات يتطلب خطوات من جانب أنقرة.

وضعت موسكو النقاط على الحروف: للتطبيع أصول وشروط. وكما كانت تركيا تفرض شروطاً على "إسرائيل" من الاعتذار والتعويض على ضحايا "مرمرة” وكسر الحصار على غزة، فأولى بروسيا أن تطالب بالاعتذار عن إسقاط الطائرة والتعويض ومحاكمة الذي قتل الطيار الروسي أثناء هبوطه بالمظلة. مع ذلك، فهذه تبقى مقدمات شكلية للتطبيع لا تقدم ولا تؤخر، بل تحتاج إلى تغيير تركيا سياستها السورية بشكل جذري.

السعي التركي للتطبيع مع روسيا بالمجان لا يلغي استمرار رهانها على سيناريو رابع، وهو مواصلة دعمها للمعارضة المسلحة عبر تكثيف إرسال الإرهابيين والأسلحة الحديثة إلى حلب وادلب وغيرها. وهو دعم وثّقته روسيا بنفسها. وهو يدل على أن رهانات تركيا على تغيير ما في الوضع الميداني لمصلحتها، ما دامت الأزمة قائمة، لا تزال موجودة وبقوة وإن ضاقت الحدود الجغرافية للدعم.

لقد شهدت تركيا الأسبوع الماضي تشكيلات ديبلوماسية ذات دلالة. إذ اعتبرت تصفية لفريق رئيس الوزراء والخارجية السابق أحمد داود أوغلو في الخارجية. مدير عام الخارجية فريدون سينيرلي أوغلو عين سفيراً لتركيا في الأمم المتحدة. مساعده ناجي قورو عين سفيراً في مركز المنظمة في جنيف. البعض رأى في هذه التشكيلات تحميلا لداود أوغلو النهج الكارثي السابق في السياسة الخارجية التركية، ومقدمة لتوجه جديد فيها، يبدأ من روسيا وينتهي في سوريا.

في الواقع هذا البعض يقع في خطأ كبير، وهو أن ينسب لداود اوغلو بمفرده السياسات السابقة. داود اوغلو هو أحد وجهَي الميدالية التي وجهها الآخر رجب طيب أردوغان. لقد كانا شريكين بالكامل في السياسة العدوانية تجاه سوريا، ومجرد إزاحة داود اوغلو لا تعني تغييرا فيها. عزل داود اوغلو كان لأسباب تتعلق بالنظام الرئاسي وليس بالسياسة الخارجية. عزل فريقه هو تصفية لما تبقى من إرث له في السلطة في إطار تصفية الحسابات الداخلية. إن في تحميل داود اوغلو هذه المسؤولية هو محاولة لتبرئة أردوغان منها.

ومن استمرار الدعم التركي للمجموعات المسلحة في حلب وإدلب وغيرها وبقوة لا يمكن الخروج باحتمال ايجابي للتشكيلات الديبلوماسية الأخيرة تجاه سوريا. بل إن صحيفة "باقيش” الموالية لفتح الله غولين ترى أن التشكيلات الديبلوماسية الجديدة اعتراف بإفلاس السياسة الخارجية التركية في السنوات الماضية. وتضيف: "تغيير الأشخاص ضروري لتغيير السياسة، لكن الأهم تغيير النهج. الانهيار في السياسة الخارجية من أسبابه المزيد من الاستئثار بالسلطة في تركيا. لقد أفقد لاعبو حزب العدالة والتنمية ثقة العالم بهم. وتعيينات السفراء الجديدة تسعى لتقول إن تركيا تريد التصالح مع إسرائيل ومصر وسوريا وحتى ليبيا. لكن من دون تغيير السلطة في تركيا لا يمكن تغيير السياسة الخارجية”.

تلعب تركيا على أكثر من سيناريو والمطلوب طوق نجاة واحد أحد: إغلاق حدودها أمام تدفق الإرهابيين والأسلحة، ووقف التدخل بالشأن السوري، والابتعاد عن سياسات التذاكي والمناورة والخداع والالتفاف. وخلا ذلك ستواصل تركيا حصد المزيد من الخسارات والمخاطر على أمنها القومي.