أميركا التي تغيّرت لمن لا يصدّقون؟
ناصر قنديل
- يصرّ الكثير من المتابعين والسياسيين والمحللين على تأليه القدرة الأميركية وتصويرها كقدرة أسطورية لا يصيبها الوهن ولا تتآكل ولا تتراجع، وإنْ حدث ذلك فهو ضمن خطة أو فخّ للخصم أو تصوير هوليودي لحساب لا يمكن فهمه، إلا من صاحب البيت الأبيض وإدارته ومخابراته، ولذلك يتمسّك هؤلاء بإنكار كلّ ما تحفل به وقائع السنوات الثلاث الأخيرة من أدلة على تسليم أميركي بتواضع قدرة القوة التي تمتلكها واشنطن على رسم أقدار البشرية، والتنكّر لإقرار صناع السياسة في واشنطن بأنّ عليهم الانخراط بتفاهمات الممكن مع القوى الدولية والإقليمية التي أثبتت قدرتها على تحمّل الضغوط الأميركية والصمود في وجه حروبها، والتحوّل إلى مراكز قوة لا يمكن إسقاطها ولا تجاهلها ولا مواصلة الحرب معها، ويصير عبّاد أميركا وألوهيتها على أنّ ما صدر في تقرير بيكر ـ هاملتون منذ سنوات والعودة إليه اليوم ليسا إلا مجرد تكتيكات للإيقاع بالخصوم، بتراجعات وهمية تخفي وراءها جبروت الإقدام.
- شهدت السنوات الثلاث الأخيرة ثلاثة أحداث كبار ينبغي التوقف أمامها كمفاصل في السياسة الدولية ومقارنتها بما يشبهها ويعادلها في تاريخ العلاقات بين الدول، وخصوصاً حيث تكون أميركا طرفاً معنياً ولاعباً مباشراً، ويمكن لها أن تقدّم أجوبة أو تطرح تساؤلات، وتنفي عن القول بتغيّر أميركا التي نعرفها، صفة التمنّي والوهم، وتظهر عمى الألوان الذي يصيب عبّاد أميركا وعشاق ألوهيتها.
- الحدث الأول كان في صيف العام 2013 عندما جاءت الأساطيل الأميركية إلى مياه البحر المتوسط تحت شعار توجيه ضربة عسكرية لسورية، تحت شعار التأديب بتهمة خرق خط أحمر رسمه الرئيس الأميركي، وعودة هذه الأساطيل من دون توجيه الضربة، وبحلّ سياسي للسلاح الكيميائي السوري، والأكيد أنه لو تمّت الضربة وحققت أهدافها لكان إسقاط الحكم في سورية ومصادرة سلاحه الكيميائي وغير الكيميائي تحصيلاً حاصلاً على الطريقة التي فعلتها واشنطن في العراق، ونحن هنا لا نتحدّث عن وهم انهيار أميركا بل عن تغيّرها، ويكفي العودة للتاريخ العسكري الأميركي لاكتشاف أن لا شبيه بهذه الحادثة، فلم يسجل مرة أن أصدر الرئيس الأميركي أمراً علنياً لقواته بالتوجه لتنفيذ مهمة، وتحرّكت الأساطيل ثم عادت من دون تنفيذ المهمة، مكتفية بتعويض سياسي. وفي المقابل هذا لا يعني أنّ أميركا التي حازت تعويضاً سياسياً صارت صفراً، فهي تشبه ما كان عليه وضع الاتحاد السوفياتي في ستينيات القرن الماضي في حادثة شبيهه بيوم أرسلت موسكو أسطولها نحو كوبا لتموضع صواريخها النووية هناك، وكادت تصطدم بالأسطول الأميركي، وحازت على تعويض سياسي تمثل بفك الحصار الأميركي عن الجزيرة الشيوعية، مع فارق أنّ موسكو يومها أرسلت سفنها رداً على قرار الحصار الأميركي ويحق لها القول إنها أعادت أسطولها لأنّ الهدف تحقق، بينما لم تقل واشنطن يوماً إنها تريد حلاً سياسياً للسلاح الكيميائي، بل قالت إنها جاءت لضربة تأديبية… مستحقة قد صدر القرار بتنفيذها ولا رجعة عنها.
- الحدث الثاني كان في العام 2015 بين الربيع والصيف والذي توّج بتوقيع التفاهم على الملف النووي الإيراني، في مناخ مواجهة عميقة تاريخياً بين واشنطن وطهران تطال بصورة رئيسية موقف طهران من «إسرائيل»، وشهدت خلال ثلاثة عقود الكثير من أشكال الضغوط والحروب الباردة والساخنة، ووجدت واشنطن نفسها كما شرح رئيسها باراك أوباما مرغمة على قبول خيار التوقيع على التفاهم والتسليم بأهون الشرور، لأنها فشلت بكسر إرادة طهران ولا تملك قدرة الذهاب إلى حرب، والأهمّ والأخطر أنّ واشنطن فعلت ذلك من وراء ظهر حليفين اعتادت أن تجعلهما بوابة كلّ تفاهماتها الشرق أوسطية، وهما «إسرائيل» والسعودية، بل خلافاً لرغبتهما، ورغماً عن تهديداتهما، ويمتلئ التاريخ الأميركي الذي بنت فيه واشنطن مواقف وسياسات وفقاً للبوصلة الإسرائيلية، خصوصاً من تفاهمات مفترَضة في الشرق الأوسط، فمذكرات قادتها تكشف العروض التي قدّمتها لعدنان مندريس رئيس حكومة تركيا في الخمسينيات لقبول العلاقة بـ «إسرائيل»، ليصير رجلها المعتمد بوجه الجيش، ومثله عروضها لحكومة محمد مصدق في إيران للتعاون مع «إسرائيل» لتتولى واشنطن دعمه بوجه عودة الشاه، وكيف تصرّفت بقيادة الحرب عليهما عندما رفضا العروض، وكذلك ما يرويه بطرس غالي عن ظروف زيارة الرئيس المصري الراحل أنور السادات للقدس ومسار «كامب ديفيد» بقوله إنّ رغبة السادات كانت علاقة استراتيجية بواشنطن، لكنه تبلّغ أنّ بوابة واشنطن هي تل أبيب، وبالمقارنة لا يشبه هذا الحدث بالتأقلم الأميركي مع موازين القوى إلا القبول السوفياتي بسقوط بولندا أمام الغرب في منتصف الثمانينيات، وإقامة علاقات دبلوماسية مع الحكومة الجديدة المناهضة لموسكو، والتأقلم مع بدء انهيار حجارة دومينو هيبتها في أوروبا الشرقية.
- الحدث الثالث في خريف العام 2015 وهو تموضع روسيا بقواتها العسكرية في سورية وبدء ما عرف بعاصفة السوخوي، وإمساكها منذ ذلك التاريخ بزمام المبادرة في الحرب التي عصفت بسورية بقرار أميركي وبانخراط وجودي مصيري لحلفاء واشنطن الأبرز في المنطقة وخصوصاً من ربط مصير أمنه بنتائجها كـ «إسرائيل»، ومن ربط مصير وجوده ومستقبل نظام حكمه بها كحال السعودية وتركيا، والتسليم الأميركي السريع بعد معاندة لم تدُم لأسابيع بشرعية هذا الوجود والدور، والتموضع على قاعدة التنسيق والتعاون معه كمعادلة لا تقبل الكسر ولا المعاندة، وفي سوابق مشابهة كانت واشنطن تسارع للتعامل مع أيّ تموضع روسي عسكري خارج الحدود ولو في دول مجاورة وتربط بأحلاف عسكرية استراتيجية مع موسكو، وضمن معادلات قانونية شرعية، وفي مناطق أقلّ حساسية أميركياً، وأكثر من سورية قرباً في الجغرافيا وفي الانتماء لمعادلات الأحلاف، كانت واشنطن تصف التموضع الروسي بالاحتلال والتدخل غير المشروع، وتعامله على هذا الأساس، هكذا حصل يوم زحفت الدبابات السوفياتية إلى براغ عام 1968 رداً على انقلاب دوبتشيك في تشيكوسلوفاكيا، وهي العضو في حلف وارسو الذي تقوده موسكو، وهكذا حدث يوم دخل الجيش الأحمر السوفياتي إلى أفغانستان، وفي مقارنة معاكسة، تصرّفت واشنطن مع الدور الروسي في سورية عسكرياً كما تصرّفت موسكو عام 2001 مع الغزو الأميركي لأفغانستان رداً على أحداث الحادي عشر من أيلول.
- قراءة عادلة ومنصفة وبذهن متحرّر من الألوهية ستبدو واشنطن قد تغيّرت كثيراً وبدأت تتقبّل ما لم يكن وارداً قبوله، وتتصرّف بما كان في نظرها جديراً بوصيفتها موسكو وليس بها كملكة متوّجة على عرش العالم.