مثالُ لبنان يفضح صفقة الأوروبيين: هل استقبلت تركيا شعب سوريا بأسرها؟
وسيم ابراهيم
لا يقول المسؤولون الأوروبيون كلاماً صادقاً حينما يتحدثون عن العبء الكبير على دول المنطقة. مثالُ الصفقة التركية يفضحُ مزاعمَ إعلائهم شأن الأولويات «الإنسانية». القياسُ عليها وفق نموذج لبنان، سيعني أن تركيا يجب، على أقل تقدير، أن تستضيف أكثر من 22 مليون لاجئ. المسألةُ تمتدُ أبعدَ من ذلك إلى موانع الإلحاح اللبناني.
لم يتوقف تحذير الأوروبيين من طرقٍ بديلة وضرورة الاحتراس لذلك. بعض الدول المعنية بالقضية اقترحت تطبيق نموذج الاتفاق مع تركيا. وزير الداخلية الإيطالي أنجيلينو الفانو تحدّث عن ذلك في الاجتماع الأخير لوزراء الداخلية الأوروبيين، مقترحاً عقد صفقة مماثلة مع ليبيا، وكذلك مع لبنان والأردن. قال من دون لفٍ ودوران: «لنكن واضحين، الأموال التي قدّمناها لتركيا استخدمت لإغلاق طريق البلقان، نحتاج الأموال أيضاً لإغلاق طريق المتوسط» كلياً.
طبعاً، المسؤولون الأوروبيون يبتعدون عن الاعتراف بمعادلة الرشوة، بل يقولون إن تمويل الصفقة هو نزول عند ضرورة تأمين حاجات اللاجئين. يكررون، مثلما تفعل أنقرة، أن الأموال ستذهب للاجئين، لأن هناك نقصاً ستقوم بسّده. وفق تلك السردية المكرّرة، هناك اعتراف ضمني بنقص تمويل الإغاثة، الأكبر بكثير، الذي يقاسي منه في النهاية اللاجئون السوريون في لبنان والأردن.
إذا كانت الصفقة مع تركيا يحركها «ضمير» الأوروبيين الإنساني، فنطاق صحوته يفترض أن يشمل هاتين الدولتين. هل هم مستعدون لتأمين تمويل مماثل، تطبيق نموذج الصفقة مع تركيا في أماكن أكثر إلحاحاً، في لبنان والأردن؟
السؤال طرحته «السفير» على ديمتريس أفرامابوليس، المفوض الأوروبي للشؤون الداخلية والهجرة، خلال مؤتمر صحافي.
قال مرتبّاً ردّه: «القاسم المشترك بين هذه البلدان الثلاثة إنها جميعاً تحت ضغط كبير، جميعها تستضيف الآن عدداً هائلاً من المهاجرين واللاجئين، ويتلقون دعمنا مالياً وسياسياً». هنا ستمرّ الجمل الآمنة ليصل المفوض إلى مربط الفرس: «لكن كل دولة لديها خصوصيتها». قافزاً عن توضيح قصده بالخصوصيات، التي لا تدعم بالمناسبة حجته؛ يبيّن أفرامابوليس أنه «لقد بدأنا عبر تطبيق هذا البرنامج مع تركيا، هذا مهم جداً، وحالما يكون هذا البرنامج والاتفاق مطبقين بشكل كامل، ويصلان للنجاح، يمكننا وقتها توسيع هذه الرؤية، لكن في هذه اللحظة الأمر مقصور فقط بإطار علاقتنا بتركيا».
المفوض الأوروبي هو أحد مهندسي الصفقة مع أنقرة، ومن أكثر الحريصين على العبور بها إلى برّ التطبيق. يهرب من أي إجابةٍ تسأله عن الضمانات لعدم انهيار الصفقة. لكن مرافعته، على أفضل حال، لا تقول سوى: «انتظروا بلا أفق»، لأن السياسة هي الحاكمة في هذه القضية رغم كونها تتعلق بالإغاثة الإنسانية.
لم يستطع لا لبنان ولا الأردن فرض الحصول على اتفاقٍ يُشبه، ولو من بعيد، الصفقة التركية. ما حصــلت عليه القــيادة التركية لم يأتِ سوى باستخدام ورقة ضغطٍ قوية، هدّدت الوحدة السياسية لأوروبا، في حين لا تمتلك الدولتان أي شيء يمكنه الضــغط على الأوروبيين. حتى في حالة لبنان، تتصرّف بروكسل ضمنياً كأنها صاحبة فضل أكبر.
المقارنة مثلاً بين وضع لبنان وتركيا، بالنسبة لاستقبال اللاجئين السوريين، تفضي إلى فارقٍ هائل يجعل الخطاب الإنساني للاتحاد الأوروبي عارٍيا تماماً. إذا عاشت تركيا وضعاً مماثلاً للبنان، سيعني ذلك أنها يجب أن تستضيف 22.5 مليون لاجئ، ما يماثل سكان سوريا بأسرها.
هذا مستمدّ مباشرة من الأرقام التي تتبناها بروكسل، بالنسبة لأعداد اللاجئين المسجلين حصراً. استضافة لبنان حوالي 1.2 مليون لاجئ، تجعل نسبة اللاجئين 28.5 في المئة من عدد السكان، أي أكثر من الربع. يمثل ذلك أكثر من ثمانية أضعاف الحالة في تركيا، مع حوالي 2.7 مليون لاجئ يشكلون تقريباً 3.4 في المئة من السكان. الوضع بالنسبة للأردن أيضاً يفوق بكثير الحالة التركية، مع نحو 630 ألف لاجئ سوري في دول تعداد مواطنيها 6.5 مليون نسمة.
التعامل البائس يظهر من معاينة الدعم المالي الأوروبي لتلك البلدان. وفق الصفقة الأخيرة، سيقدم الاتحاد الأوروبي إلى تركيا، عن اللاجئين هناك، ستة مليارات يورو حتى 2018. رغم أن قدرة استقبال لبنان الحالية أكثر من ثمانية أضعاف الحالة التركية، لكن لم يقدم الأوروبيون للبنان، خلال خمس سنوات من الأزمة السورية، سوى أقل من 10 في المئة (552 مليون يورو) مما يقدمونه لتركيا الآن.
على أقل تقدير، يفترض وفق النهج الأوروبي تقديم ثلاثة مليارات يورو، مساعدات للاجئين في لبنان. ذلك طبعاً بحساب بسيط، من دون النظر إلى العوامل التي يأخذها الأوروبيون عادة، ويُصرون عليها، لوضع خوارزمية الاحتسابات بين الدول. هم يأخذون عادة بالاعتبار الناتج المحلي ومعدل النمو والبطالة. يمكن فقط التذكير بالفارق الكبير بين الاقتصادَين، فحجم الاقتصاد التركي، باعتبار الناتج المحلي، يبلغ أكثر من 19 ضعفاً بالنسبة لنظيره اللبناني (بحسب أرقام صندوق النقد الدولي، للعام 2015، بلغ الناتج الإجمالي في تركيا قرابة 1600 مليار دولار، فيما كان ناتج لبنان نحو 83 مليار دولار).
كل ذلك يقوم لواقع أنه رغم الفرق الشاسع، «العبء» الذي لا يقارن، لم يستطع لبنان والأردن إجبار الأوروبيين على تقديم دعم مالي هو في مصلحتهم أيضاً. حينما يتحدث الأوروبيون للرأي العام عندهم، يذكّرون دائماً بأن مساعدة اللاجئين في دول الجوار تبقى أفضل بكثير من تركهم يضطرون للعبور باتجاه أوروبا. حتى على مستوى الاستثمار المالي، فاللاجئ يكلف في أوروبا أضعاف ما يمكن أن تقدمه له مساعدات في بلدان الجوار.
كان ذلك هو العنوان الأبرز، الموازي، لمؤتمر لندن «الإغاثي» بخصوص سوريا. يُفترض أنه جمع تعهدات بما يوازي 10 مليارات دولار، لكنها بقيت حبراً على ورق رغم مرور نحو أربعة أشهر على انعقاده.
الديبلوماسية اللبنانية حملت خطاباً يستبطن إدراكاً واضحاً للمهمة المطلوبة دولياً: عدم السماح بتحول اللاجئين إلى موجة أخرى باتجاه أوروبا. سفير لبنان لدى الاتحاد الأوروبي رامي مرتضى احتجّ مراراً على تلك المعادلة. في مناسبات عديدة، اعتبر أن ما يُطلب من لبنان هو «العمل ضد قوانين الطبيعة»، شارحاً أن الأمر يشبه كثيراً بلوغ إناء سقف قدرته الاستيعابية، ما سيؤدي حتماً لطوفانه.
مع الأوروبيين، كما بات واضحاً، لا تنفع نظريات الطبيعة، لكن نظريات الغاب تفعل. حتى حينما يتعلق الأمر بـ «تخفيف العبء»، عبر برامج إعادة التوطين للاجئين السوريين إلى أوروبا، يبقى لبنان والأردن في الصفوف الخلفية. قبل أيام، اشتكت المفوضية الأوروبية من التطبيق شبه الصفري لبرامج إعادة التوطين، ليعلن أفرامابوليس أنه «علينا زيادة إعادة التوطين بالمُعظم من تركيا، لكن أيضاً من دول أخرى مثل لبنان والأردن».
يلتزم الديبلوماسيون الأوروبيون لهجةً حذرة جداً حين السؤال عن خلفيات تلك التفرقة الفاقعة. بعضهم يكتفي بترديد النيات الحسنة، فيما آخرون يتحدّثون غمزاً، مفسّرين فروق «الخصوصيات». أحدهم علّق: إن الأمر مختلف، لأن «جغرافيا الأزمة ممتدة عبر الحدود، لبنان ليس خارج الحرب السورية تماماً».
على كل حال، يُقاسي اللاجئون الضرر الأهمّ من نقص التمويل الإغاثي، ما يفرض مسؤولية سياسيةً إضافية على الدول التي تستضيفهم، بوصفها معنية بالضغط لتأمين هذا التمويل. رغم بعض صرخات الاحتجاج المتقطع، هنا وهناك، هناك قضية أخرى تتعلق بخصوصية لبنانية مانعةٍ للإلحاح. العنوان الأبرز لها هو الدعم الدولي للحفاظ على الاستقرار، الهشّ باعتراف الجميع. بمعنى آخر، يجري الأمر أحياناً على طريقة: خيرهم يكفي، بما أنهم يمنعون انتقال حريق الحرب السورية إلينا.
في هذا السياق، لم تأت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي فيدريكا موغيريني، خلال زيارتها قبل أيام للرياض، على ذكر قضية اللاجئين من أساسها. متحدثةً بجوار نظيرها السعودي عادل الجبير، قالت: «ناقشنا الوضع في لبنان، نأمل أن الجمود المؤسسي (تذكير بموقع الرئاسة الشاغر) يمكن التغلب عليه، والبلاد يمكنها إيجاد الاستقرار. إنه بلدٌ أساسي بالنسبة لنا، ونحتاج أن يتم دعمه من كل جيرانه، وكل البلدان في المنطقة».
هذا الحديث في الرياض له دلالاته الخاصة. سَبَق لمسؤول أوروبي، يعمل على الملف اللبناني، أن تحدّث لـ «السفير» عن الخشية من لجوء الرياض للعب بالورقة اللبنانية، عبر مجموعات متطرفة، للضغط على «حزب الله» بما يحقق لها مكاسب في الميدان السوري.
يحضر دائماً التذكير بأن لبنان لا يُعطي تصاريح عمل للاجئين السوريين، ويضع خطاً أحمر حول إمكانية «التوطين»، وكل الحقوق التي يمكن أن تفتحها. لكن بعيداً عن الغمز الأوروبي، خرج في الأشهر الأخيرة كلام فاضح عن المثال اللبناني، خصوصاً استرضاء العمل كوكيل دولي لـ «تخزين اللاجئين».
اللافت أن مَن أشاع ذلك كانت اليونان، في ذروة احتجاجها على الخطط المعدّة لإغلاق طريق البلقان قبل قصة الصفقة التركية. احتجّ رئيس الوزراء الكسيس تسيبراس على خططٍ لمساعدات إغاثية مقابل ترك اللاجئين محتجزين في بلاده، مردداً أنه «لا نريد أن نتحول مستودعاً للأرواح، لا نريد أن نتحول إلى لبنان أوروبا».