مانديلا الخليجي".. سلميّ في زمن "الحزم"
عبد الله زغيب
تبسّم زعيم المعارضة البحرينية علي سلمان أثناء سماعه الحكم: تسع سنوات سيقضيها في سجون المملكة الصغيرة، وفي سجن جوّ المركزي "سيئ الصيت" على الأرجح، هناك، خلف القضبان، يدرك السياسي الشاب أن عليه القيام بعمليّة موازية لما فعل طوال العقد الماضي، عندما كان "حراً"، قوامها بناء سيرة ذاتية "نضاليّة"، في سردية باتت تنفصل بحكم الواقع وتطوراته، عن الأولى التي أدرجت اسم الشيخ سلمان في المعترك السياسي البحريني، من خلال قيادته "جمعيّة الوفاق الوطني الإسلامية". إذ بات الرجل أمام اختبار القيادة، ومن خلال "منصة" مختلفة في الشكل والأسلوب، وبتمرين عملي يفترض سلّة متكاملة من الاحتمالات الخاضعة للتغيير الدائم. فالقيادة من خلف القضبان ليست حدثاً مستجداً في البلدان "المأزومة"، بفعل الصراعات الداخلية ما بين سلطة ومعارضة. لكن ضمان النجاح فيها، مسألة شديدة الاختلاف.
السياق "التاريخي" الذي أطلق علي سلمان في "مساره" الجديد، جاء بالتوازي مع الحراك الشعبي الذي ضرب أقطاراً عربية أساسيّة أواخر العام 2010 ومطلع العام 2011، وتحول في ما بعد الى مجموعة متنقلة من الصراعات القائمة على تناقضات الإقليم، وكذلك الموروثات "الثقافية" المتخطية للعناوين السياسية البراغماتية، بما فيها من مدارس دينية وفكرية. وهذا كان يعني بالضرورة أن البحرين على المستويين السياسي والمجتمعي، تشكل قالباً جاهزاً لاستيراد الفوضى، بفعل جمعها المتناقضات القابلة للاستثمار، خاصة في الخطابة الطائفية الصاعدة، وهو كان يعني أيضاً أن على الشيخ سلمان النشاط في ظل حيّز مناورة ضيّق، لمنع انجرار الحراك الشعبي باتجاهات تتناقض مع مشروع المعارضة السياسي.
نشط سلمان في قلب معضلة شديدة التعقيد، تقوم على أربعة عناصر رئيسية:
معضلة البحرين
ـ العنصر الأول تمثل في انطلاق الحراك الشعبي بالتوازي مع ما كان يجري في مصر وتونس. ما يعني أن الثقل الأساسي للخطابة الجماهيرية، سيقوم على مفاعيل "الشعب يريد"، وبالتحديد نحو عملية "إسقاط النظام". وهذا ما فرض "استفزازاً داخل اروقة "مجلس التعاون الخليجي"، تحوّل توغلاً برياً من قبل قوات "درع الجزيرة"، لمنح النظام الملكي البحريني غطاء خليجياً قادراً على نقله الى بر الأمان، عبر التخطي غير السلس لإرهاصات "الربيع البحريني".
ـ العنصر الثاني تمثل في فشل الحراك بضم فئات اجتماعية من خارج الحيّز المذهبي الذي ينتمي اليه علي سلمان. ما يعني عمل النظام بشكل مباشر على استقطاب القطاعات الاجتماعية غير المشاركة في الحراك، مهما لاحت في المسألة مقدمات لانشقاق في الصف الوطني، بحكم ضرورة مواجهة الشارع بشارع آخر، وان كان غير وازن في عملية المفاضلة المباشرة. وعلى هذا المنوال تمم "فقيه الربيع" الدكتور يوسف القرضاوي، سلسلة مواقفه "التصنيفية"، معلناً وقتها أن ما يحصل في البحرين "ثورة طائفية".
ـ العنصر الثالث كان في افتراض النظام الخليجي والسعودية تحديداً، أن "انتصار" الحراك في البحرين يعني ضمناً تحول المملكة الصغيرة الى امتداد "طبيعي" لمنظومة الامن القومي الايرانية، نظراً للارتباط الثقافي والمذهبي الشديد بين البيئتين الإيرانية والبحرينية. وهو ما يعني التهديد بانتقال "عدوى الحراك" الى قطاعات في الداخل السعودي، لها ارتباط طبيعي بالمجتمع البحريني، بالتحديد في المنطقة الشرقية. وهذا التصور كان كافياً في منح السعودية للمنامة قبة حمائية بامتياز، واعتبار الرياض ان نظام المنامة تحول الى خط أحمر، غير خاضع للتبدلات "النخبوية" الطارئة او المتوقعة وقتها، في عدد من الدول العربية المسجلة على "قيد الربيع".
ـ العنصر الرابع يُختصر بطبيعة التموضع الاستراتيجي للبحرين. فهي جزء اساسي من "مجلس التعاون الخليجي"، وحليفة موثوقة للمملكة العربية السعودية. والأهم من ذلك، كونها عنصراً شديد الأهمية من الناحية اللوجستية "تاريخياً"، للبحرييتين الأميركية والبريطانية. فهي "تستضيف" مقر الأسطول الأميركي الخامس، وكذلك منشآت استراتيجية وأمنية أميركية أخرى في الجفير وميناء سلمان، إضافة لقاعدة بحرية بريطانية قيد التوسعة. وهذه أسباب تكفي لجعل نظام الملك حمد بن عيسى خطاً أحمر آخر، بالمنظور الاستراتيجي "الأطلسي".
فشل الحلول
وجد الشيخ علي سلمان نفسه في قلب هذا المعترك الحافل بالتناقضات والاعتبارات الخارجية والداخلية، زعيماً للحراك الشعبي، بفعل قيادته أكبر التيارات السياسية المعارضة في البلاد. فرجل الدين والسياسي الخليجي "المرفّه"، وصاحب "الكاريزما" المحببة لقطاع واسع من الشارع البحريني، آثر الهدوء في التعاطي الإعلامي وكذلك السياسي، ساعياً الى تعزيز النظرية القائلة بأن الحراك، أصبح جزءاً مكملاً لما يحصل وقتها في العالم العربي، عبر تعزيز علاقات المعارضة البحرينية بالتكوينات المعارضة حينذاك في العالم العربي، وفي مقدمتها التيارات المصرية المعارضة. لكنه فشل في تحقيق منافع مباشرة من عملية "تطعيم" الحراك البحريني بمشروعية عربية أوسع، بمعزل عن تمكنه من عقد لقاءات عديدة، أفضت الى رفع علم البحرين بين مخيمات الاعتصام في ميدان التحرير وسط القاهرة. إلا أن الفشل جاء كنتيجة مباشرة للتعتيم الهائل الذي مارسته وسائل الدعاية العربية "الراعية للربيع" على تحركات المعارضة، وكذلك على التحركات الشعبية في الداخل البحريني.
حاول علي سلمان ومعه اطياف معارضة اخرى، ولفترة محدودة في بداية الحراك، الوصول الى نتائج سريعة تفضي الى مخارج مقبولة من الجميع، بعدما ادرك الجميع هذا عقم "الثورة"، اذا ما كان المطلب انقلاباً شاملاً على العائلة الحاكمة وامتداداتها الداخلية والخارجية. فسعى الى تقنين مطلب اسقاط النظام ما أمكن، وتفعيل أدوات ذات "مقبولية" إقليمية ودولية، افترض الشيخ سلمان انها وافية لتهدئة "مخاوف" المنامة، وبالتالي تشكل مدخلاً طبيعياً لتحركات إصلاحية من داخل النظام. لكن اصطدامه بإحساس "نظامي" بالتفوق وفائض القوة، مقرون بمقتل عدد من المتظاهرين، دفعه الى الانسحاب من البرلمان البحريني حديث العهد، ومعه كتلة "الوفاق" البرلمانية، التي كانت تعد الأكبر في البرلمان. اذ انسحب من المجلس المكون من 40 نائباً 18 عضواً من الوفاق بقيادة رئيس الكتلة عبد الجليل خليل في 17 شباط 2014.
اعتقال لا يُنهي القضية
اعتقل الأمين العام لجمعية "الوفاق" الشيخ علي سلمان نهاية العام 2014. وفي الثلاثين من ايار الماضي، رفعت المحكمة مدة سجنه الى تسع سنوات، مبددة بذلك الأجواء التي تحدثت عن حدوث انفراجة مفاجئة في الأزمة السياسية على اعتاب شهر رمضان، واخرى تحدثت عن اتجاه الملك نحو إصدار "عفو" عن السجناء، لكنها جاءت ايضا في سياق آخر كان أكثر واقعية. اذ سمع زملاء لعلي سلمان في الداخل البحريني وقبل شهور عدة، وعلى لسان ديبلوماسي غربي، ان على "الوفاق" البحث عن امين عام آخر، وهذا ما لم يحصل. لكن الخطوة الجديدة من النظام برفع محكوميته، قد تدل على أن الرجل بات ثقيلاً على صدر العملية السياسية "الحكومية"، وأن البحث عن خيارات معارضة اخرى، قد يكون انجع لإيجاد تخريجة للازمة، تتجاوز العناوين الاصلاحية التي طرحها سلمان، الى نسخ أكثر قبولاً من المنامة. ومن هنا تفسر ربما "الرؤية" التي طرحتها جمعية "وعد"، احدى الجمعيات الاساسية في المعارضة البحرينية، قبل يومين فقط من إعلان الحكم الجديد على الشيخ سلمان.
يُحسب للشيخ سلمان أنه كان، وما زال، من أبرز "القادة" العرب، وفي الصف المعارض تحديداً، رفضاً للعنف والتزاماً بالسلميّة في سبيل الوصول الى مستوى "مناسب" من التسويات مع النظام الحاكم. فقد آثر الابتعاد طوال السنوات الماضية ومعه جمعية "الوفاق"، عن عناصر أكثر راديكالية في البيئة الثقافية التي ينتمي اليها سلمان. وهي الجماعات المسؤولة عن عدد من "العمليات" التي طالت قوات الأمن وتسببت بعدد "ضئيل" من الوفيات والإصابات، لكنها بطبيعة الحال لا تعبر الا عن جزء هامشي من الحراك، على المستويين التنظيمي والشعبي. فالرؤية السلمية هذه، تفترض أن الحفاظ على التهدئة في وجه النظام، لن تدفع به نحو سرديات مشابهة لما حصل في الساحات الليبية والسورية واليمنية. وهي الأقدر على الحفاظ على الأمن البحريني، وبالتالي فرض جمعية "الوفاق" وما يدور في فلكها، كعناصر ناشطة وكاملة العقلانية، وقادرة على إبرام الصفقات في اللحظة المناسبة. وهكذا يبقى علي سلمان "مانديلا الخليجي"، زعيماً "بالقوة" بانتظار الانتقال الى "الفعل"، برغم القضبان التي تحول دون نشاطه على طاولة الوجهة النهائية للأزمة البحرينية.